لست أدري هل ما يفعله أردوغان -رجل تركيا المريض- باختلاق المشاكل في بقاع كثيرة من العالم وبإطلاق شهيته نحو جر شكل الدول سواء جيرانه أو غير جيرانه, هو من قبيل التنفيس عن مخزون هائل من الصلف والغطرسة والشر في داخله, أم من قبيل التشويح في كل اتجاه بالاستفزاز والانفلات لتشتيت الأنظار في العالم عما يضمره من أهداف وأطماع أبسط ما توصف به أنها مستدعاة من عصور مظلمة ولت بغير رجعة ولم تعد تصلح أو تنتمي لعصرنا هذا.
ولعل أكثر الأمور المسكوت عنها قبحا في ملف أردوغان هو سؤال حائر يبحث عن إجابة: كيف تترك القوي العالمية كل هذا الانفلات والعبث يستمر وينمو ويتوحش ولا تستطيع تحجيمه وتكتفي ببيانات الشجب والاستنكار؟… ينطبق ذلك علي الجميع… أمريكا وروسيا والمجموعة الأوروبية… ويبدو أن المبادئ الإنسانية والقانون الدولي والسلام العالمي كلها معايير يتم تنحيتها جانبا أمام توازنات ومساومات وصراعات السياسة بين هذه القوي ورضوخها المؤسف لابتزازها من جانب أردوغان.. تارة بالتلويح بملف اللاجئين وتارة بالتذكير بعضوية تركيا حلف شمال الأطلنطي وتارة باللعب علي وتر ازدواجية مصادر التسليح شرقا وغربا وتارة باللعب علي إذكاء مصالح خطوط الغاز الروسية عبر تركيا إلي أوروبا… وبالتالي تترك تلك القوي العالمية لأردوغان الحبل علي الغارب لفعل ما يحلو له في سوريا والعراق وضد الأكراد وفي ليبيا وفي قبرص واليونان والبحر المتوسط كما تترك لذراعه أن تطول دولا بعيدة كل البعد عن تركيا ليكون له فيها موطئ قدم عسكرية مثل قطر والسودان وإثيوبيا… إذا بعد كل ذلك لا عجب في انسعار أطماعه نحو إحياء حلم الإمبراطورية العثمانية وتهيئة المسرح لإدراك ذلك الهدف البغيض بدءا من داخل تركيا نفسها التي نجح في طمس هويتها العالمانية الحديثة وأسلمة جميع مؤسساتها ومفاصلها, وبات مزهوا مغرورا بنفسه متروكا يفعل ما يشاء.
لذلك لم يكن غريبا عليه -حتي وإن كان صادما للعالم الذي لا حول له ولا قوة- أن يعلن مؤخرا عن نواياه تغيير هوية أحد المعالم التاريخية الأثرية الذي ينتمي إلي رصيد التراث العالمي الإنساني طبقا لمنظمة اليونسكو بتحويله إلي مسجد… إنه متحف آيا صوفيا هذا الصرح العظيم الخالد الذي تفخر به مدينة إسطنبول التركية التي تعد العاصمة غير السياسية لتركيا لكونها مركز الحضارة والتقدم والحداثة وحركة الاقتصاد والسياحة في البلاد.
آيا صوفيا تاريخ عظيم يضرب بجذوره في عمق التاريخ حيث بنيت عام 532 ميلادية ككنيسة ضخمة إبان مجد الدولة البيزنطية المسيحية في عهد الإمبراطور جستنيان الأول وافتتحت عام 537 ميلادية, وظلت طيلة 921 عاما تمثل أيقونة للكنيسة البيزنطية الأرثوذكسية الشرقية, حتي اجتاح السلطان التركي محمد الثاني المدينة عام 1458 ميلادية واستولي جنوده عليها وعاثوا فيها تدميرا وقتلا وتنكيلا وأخضعوها للحكم الإسلامي واستولوا علي آيا صوفيا وقاموا بتحويلها إلي مسجد حيث استمرت كذلك طيلة 482 عاما حتي جاء مصطفي كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة, وفي عام 1935 أصدر قرارا بتحويل ذلك الصرح العظيم إلي متحف يجمع بين جنباته التراث والكنوز المسيحية والإسلامية.
هكذا بقيت آيا صوفيا متحفا عالميا قبلة للسائحين وشاهدا علي تعايش المسيحية والإسلام في ظل دولة تركيا الحديثة التي أخرجها كمال أتاتورك من غياهب التخلف والعصور المظلمة وخلصها من إرث الدولة العثمانية البغيض الذي تجاوزه الزمن, كما أسس فيها بجانب عالمانية الحكم والدولة المدنية ديمقراطية راسخة نص دستورها علي أن جيشها هو الحامي لها والعين الساهرة عليها… وكان هذا هو السبيل الذي انتشل تركيا العثمانية من شخصيتها الآسيوية وعبر بها نحو الحداثة الأوروبية… إلي أن شاءت الأقدار أن يقفز أردوغان إلي السلطة في مطلع الألفية الثالثة وانطلق بلا هوادة نحو تحطيم كل مكتسبات تركيا- أتاتورك والعودة بها إلي التخبط والانحدار والتراجع سياسيا واقتصاديا وحضاريا.. وكانت آخر حلقات تلك السلسلة الكريهة لإحياء الدولة العثمانية وأسلمة مفاصل تركيا هي اغتيال متحف آيا صوفيا وتحويله إلي مسجد للصلاة… وتسأل: هل إسطنبول تعوزها المساجد أو تضيق مساجدها بالمصلين؟… والإجابة لا.. إنما هي هجمة ضمن هجمات رجل تركيا المريض, يباغت بها المجتمع الدولي إمعانا في جر الشكل والاستفزاز.
تتفاوت ردود الأفعال تجاه قرار أردوغان, فبينما أوصي المدعي العام التركي بعدم تحويل آيا صوفيا إلي مسجد, صدر قرار المحكمة العليا التركية بإنهاء طبيعتها من متحف وتحويلها إلي مسجد… وتوالت ردود الأفعال العالمية, فها هي اليونسكو تصدر بيانا يقول: بازيليك آيا صوفيا تمثل جزءا من مدينة إسطنبول التاريخية ويجب أن تحرص الدولة التي توجد الممتلكات التاريخية علي أراضيها علي عدم إدخال أية تعديلات علي هذه الممتلكات من شأنها الإضرار بقيمتها العالمية الاستثنائية.
أما عن التصريحات الدولية الروسية والأمريكية والأوروبية التي تتراوح بين الاستغراب والاستنكار إزاء قرار أردوغان فأظن أنه يكفي أن تعيدوا قراءة الفقرة الثانية من هذا المقال لتعرفوا مغزاها ومداها تمام المعرفة!!