ماذا وراء التفاهم المفاجئ بين الدول الإفريقية التي تضم منابع نهر النيل حول مطالبة مصر بإعادة النظر في الاتفاق علي تقاسم مياه النهر؟ هل تحركت الآن هذه الدول من تلقاء نفسها؟ أم أن يدا ما حركتها؟ إذا كانت تحركت من تلقاء ذاتها فهل باستطاعة مصر الاستجابة لها؟ وإذا كانت هناك يد حركتها فماذا يطلب صاحب اليد من مصر؟
إن الاتفاق الذي ينظم حصص مصر والدول الإفريقية وقع في عام 1929 في ظل الاستعمار البريطاني لهذه الدول. ومع ذلك جري تثبيت الاتفاق في عام 1961 عن طريق إقرار قانون دولي ينص علي اعتماد الاتفاقات المعقودة بين الدول خلال الحقبة الاستعمارية دون أي تغيير. وبموجب ذلك فإن عدم المس بقاعدة توزيع مياه النيل أصبحت ملزمة, تماما مثل الالتزام بقاعدة عدم مس الحدود السياسية القائمة بين الدول الإفريقية والموروثة أيضا عن الاستعمار, علما بأن هذه الحدود لم تراع الحساسيات الإثنية ولا جغرافية الانتشار القبلي. وجاءت بعد ذلك معاهدة فيينا لعام 1978 لتؤكد علي هذا المبدأ بشكل مباشر وصريح. وبعد ذلك وقع اتفاقان ثنائيان الأول بين مصر وأوغندا في عام 1991, والثاني بين مصر وإثيوبيا في عام 1992, وكلاهما يؤكدان علي عدم المس بحصة مصر من مياه النيل.
وفي الأساس تبلغ ثروة النهر المائية 1680 مليار متر مكعب يصل إلي مصر منها أربعة في المئة فقط, أي ما يعادل 84 مليار متر مكعب. وهذه الأربعة في المئة تغطي 95 في المئة من حاجة مصر من المياه. ولذلك فإن تخفيض حصة مصر يعني تعريضها إلي أفدح الأخطار, لأنه لا يوجد لديها أي مصدر آخر للمياه. فليست في مصر أنهار أخري. وليست فيها مياه جوفية يمكن الاعتماد عليها. ولذلك فإن المس بحصتها من المياه يعني المس بأمنها القومي الاقتصادي والاجتماعي وبالتالي السياسي.
ومن هنا التساؤل: ماذا وراء تحريك المطالب من تلك الدول الإفريقية في هذا الوقت بالذات؟ هل هي بحاجة فعلا إلي المياه؟ إذا كان الجواب بالإيجاب, فأين تذهب نسبة 96 في المئة من مياه النيل. إن إثيوبيا وحدها التي غالبا ما تعاني من الجفاف يضيع فيها 800 مليار متر مكعب من مياه النيل. فهي لا تستفيد إلا من حوالي واحد في المئة فقط من هذه المياه. أما الكميات الباقية فتذهب هدرا في المستنقعات التي تتوسع علي حساب الأراضي الزراعية وتتحول إلي مصدر للأمراض. وهو ما يحدث كذلك في بقية الدول الإفريقية الأخري. ومن هنا كانت وجهة نظر مصر أنه بدلا من المطالبة بتقليل حصتها من مياه النيل, فإن العمل علي وقف الهدر الذي يصل إلي نسبة عالية جدا من مياه النهر, يحقق عدة أهداف إنمائية للدول الإفريقية, منها توفير فائض من مياه النهر وإعادة تحويل المستنقعات إلي أراض صالحة للزراعة, والقضاء علي الأمراض والأوبئة التي تنطلق من هذه المستنقعات.
غير أن الدول الإفريقية السبع لم تأخذ بوجهة نظر مصر. فهي تعتمد وجهة نظر أخري تقول بالأمور الآتية:
أولا: إن اتفاق 1929 لا يعنيها. فهي لم تكن طرفا فيه. إذ كانت في حينه مغلوبة علي أمرها. فالاتفاق يعكس مصالح الدولة المستعمرة وليس مصالح الدول الإفريقية صاحبة الحق في المياه.
ثانيا: إن الدول الإفريقية السبع بحاجة إلي التنمية. ولا يمكن الاستجابة لهذه الحاجة الملحة إلا من خلال إقامة سدود علي مساقط نهر النيل, وتنفيذ أعمال ري واسعة النطاق لإنتاج المواد الغذائية.
ثالثا: لا تطالب الدول السبع بإعادة النظر في حصص توزيع مياه النيل رغبة في الضغط علي مصر ولكن استجابة لحاجاتها المحلية.
وهذه الأمور الثلاثة جري توضيحها في سلسلة من المؤتمرات كان آخرها مؤتمر عقد في شرم الشيخ, ولكنه انتهي, كالمؤتمرات السابقة, إلي عدم الاتفاق. فمصر تمسكت بموقفها علي قاعدة الالتزام باتفاقية 1929 مع بريطانيا, ومعاهدة فيينا 1978, وحذرت من أن أي مس بحقوقها الدولية هو بمثابة اعتداء عليها.
والواقع أنه بعد أن ارتفع عدد سكان مصر إلي 80 مليونا فقد أصبحت بحاجة إلي المزيد من المياه. وتقدر هذه الحاجة الإضافية بمليار متر مكعب. فكيف ستحصل مصر علي هذه الكمية الكبيرة في الوقت الذي تطالب فيه الدول الإفريقية بتخفيض حصتها الحالية؟ لقد بعث مبارك بعد مؤتمر شرم الشيخ مباشرة برسائل إلي رؤساء الدول السبع شرح فيها وجهة نظر مصر المستجدة من المياه وحقها وحاجتها في الحصول عليها من دون إلحاق أي ضرر بالدول الأخري. وطرح في رسائله اقتراحات جديدة تلتزم مصر بموجبها بمساعدة هذه الدول علي الإفادة من المياه المهدورة, التي تؤكد الدراسات الفنية أنها كافية للاستجابة لحاجات هذه الدول لعقود عديدة مقبلة أيضا. وإذا لم تستجب الدول الإفريقية لمقترحات الرئيس المصري فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو كيف سترد مصر علي ##الاعتداء## الذي يبدو أن الدول الإفريقية مصرة علي ##ارتكابه##؟
لا تلوح مصر أبدا باستخدام القوة. ولكنها تؤكد الاحتكام إلي المجتمع الدولي, سياسيا من خلال مجلس الأمن الدولي, وقانونيا من خلال محكمة العدل الدولية في لاهاي. وتؤكد أيضا استعدادها لتحويل مشاريع تنموية وزراعية من خلال إعادة استثمار مياه النيل المهدورة في الدول الإفريقية السبع.
فإثيوبيا علي سبيل المثال تستفيد بنسبة واحد في المئة فقط من مياه النيل, علما بأن ثلثي المياه -800 مليار متر مكعب تقريبا- تنبع من أراضيها. وتهبط هذه النسبة في تنزانيا إلي نصف في المئة, وترتفع في بوروندي إلي خمسة في المئة. وتشير هذه الإحصاءات إلي أن ثمة حاجة ماسة لعمل مشترك من أجل استثمار المياه المهدورة. فالمياه غزيرة تفي بحاجة كل دول حوض النيل, ولكن ذلك يحتاج إلي مخطط علمي لوقف الهدر.
فهل هناك قوي تعطل الوصول إلي هذا المخطط وتحرض الدول الإفريقية علي مصر؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فما هو شكل هذا التحريض ومن يقوم به؟
في بعض الدوائر المصرية اتهام مباشر لإسرائيل التي تتعاون معها معظم الدول السبع في مجالات الزراعة والري. ويمول هذا التعاون البنك الدولي ووكالة التنمية الدولية. أما غاية إسرائيل من التحريض فهي محاولة ابتزاز مصر والسودان سياسيا. ولكن عندما يصل الأمر إلي إقامة مشاريع وسدود مائية كبيرة فإن مصادر التمويل الدولية هذه محكومة باحترام المواثيق والاتفاقات الدولية التي تتمسك بها مصر.
وكالعادة تنفي إسرائيل هذا الاتهام, وتقول إنه لا مشكلة بينها وبين مصر حتي تقوم بأي محاولة للضغط أو للابتزاز. وإن كل ما في الأمر هو أن الدول الإفريقية بحاجة ماسة إلي زيادة حصتها من المياه, وأنها تتحرك انطلاقا من هذه الحاجة وليس بإيعاز من إسرائيل أو من أية جهة أخري.
وأيا تكن حقيقة الموقف الإسرائيلي فإن الأمر الثابت هو أن تراجع الحضور المصري في إفريقيا ترك القارة مفتوحة أمام إسرائيل لتصول وتجول فيها بدعم من الولايات المتحدة, وأحدث هذا التراجع فراغا واسعا وخيبة أمل إفريقية عميقة. وتتصارع الآن علي ملء الفراغ كل من إسرائيل وإيران من جهة, والصين والولايات المتحدة من جهة ثانية.
وكانت حصة مصر من مياه النيل تأتيها رغدا من كل الدول السبع بما كان لها من تأثير وموقع ممتاز في دول القارة. وعندما تراجع هذا الموقف بدأت الدول الأخري تتداعي عليها كما تتداعي الأكلة إلي قصعتها. فليس من المعقول أن تعتمد مصر علي مياه النيل بنسبة 95 في المئة وأن يتراجع دورها في إفريقيا بنسبة 95 في المئة أيضا. ومن هنا فإن استعادة مصر لحضورها ولدورها في إفريقيا بات يشكل القاعدة الأساس للمحافظة علي أمنها الاستراتيجي الذي يعتمد علي مياه النيل.
عن الإتحاد الاماراتية