إنها امرأة دمثة الخلق تتمتع بأصالة متميزة,تعرف تماما عمق الحياة الزوجية والأسرية حيث فرط الولاء للزوج وفرط الرعاية للأبناء,يشعر براحة نفسية جمة كل من يزاملها ويحاورها,لا تفرق في المعاملة حتي لو اختلفت العقائد وتباينت المذاهب.إنها امرأة من زمن الحب الأصيل يفخر بها من قرب منها.
كان يسأل نفسه عن سبب ما تتمتع به هذه المرأة من زمن الحب الأصيل…من صفات حميدة تكاد تندر في حاضرنا الممزق.لكنه لم يحدث أن حاول لمرة واحدة أقرب المقربين إليها وهو زوجها أن يغوص في أعماق شخصية هذه الامرأة من زمن الحب الأصيل,اعتقادا منه بأنها تأثرت به انطلاقا من عملية التطبيع الاجتماعي التي يؤكدها علماء النفس والاجتماع,تأثرت بفعل سلوكياته المتفتحة إلي آفاق بعيدة والمتسامحة إلي أبعد الحدود انطلاقا من ترتبيته الريفية الأصيلة في زمن كانت الحياة فيه فطرية فكلنا بشر من خلق الله سبحانه وتعالي,تشكلت توجهاتنا العقائدية عن طريق الوراثة ولا شأن لنا في ذلك وبالتالي فإن كل فرد منا في ذلك المجتمع الأصيل يتعامل مع الغير دون أية خلفية تسود أو تفرق فالدين لله والمجتمع للجميع,يضاف إلي ذلك أن زوجها كان قد انغمس في بوتقة إحدي الثقافات الأوربية وتخصص في لغتها وآدابها وعاش في بلدها لسنوات طوال ولكنه كان كل مرة يستعجب ودائما ما تساوره الدهشة من أمر هذه السيدة من زمن الحب الأصيل,لأنها كانت تحسن التعامل مع كل من تقترب منه دون أن تفكر لحظة أن الآخر من دين آخر لأن سلوكياتها الإنسانية السمحة الأصيلة تحثها دائما علي عدم الغوص في هذه الأمور اللاحضارية واللابشرية واللا إنسانية ومن هنا يأتي إعجاب الآخر بها وانجذاب الآخر لها.
كانت لها زميلة عمل مسيحية وما أكثرهن,تواصلت أواصر الزمالة والصداقة بينهما قامت فعلا علي أساس سعي كل منهما سعيا جديا وحثيثا وخالصا لوجه الله ينبع من أعماق,أعماق النفس الإنسانية تتمحور حول السعي لمصلحة الآخر ودرء الخطر عن الآخر وتحقيق كسب مادي أو معنوي للآخر مهما تطلب ذلك من بذل جهد أو عناء حتي أن زوج هذه الزميلة كان يتسابق مع زوجته في تقديم خدماته لهذه المرأة التي هي فعلا من زمن الحب الأصيل ولزوجها وأولاده.كانت لهما بصفة منتظمة احتفالات من القلب بأعياد ميلاد الأولاد والأزواج أو كلاهما شخصيا,ويجري الزمن ويسير قطار العمر والعلاقة لا تزال ثابتة راسخة,ومن الطريف أن كلا منهما تحاول البحث عن عريس أو عروس للأولاد من دين الآخر للآخر…إنها قمة الإنسانية وذروة التسامح وهنا يحضرني في ذاكرتي قصةالخاتمالتي جعل منها الكاتب الألمانيجوتهولد إفرايم ليسينجقضية رمزية تتمركز وتتحور حولها أحداث مسرحيته المعروفةناتان الحكيمحيث ترجع أحداث هذه المسرحية إلي زمن الحروب الصليبية والقائد العربي صلاح الدين الذي كان يعتد برأي يهودي يدعيناتان وذلك لحكمته المعهودة حتي أنه أنس له تربية ابنة شقيقه الذي أنجبها ثم يسافر إلي ألمانيا وينجب ابنا يعتنق المسيحية ويقع-دون أن يعرف الحقيقة-في حب شقيقته المسلمة تلك الابنة التي تربت في كنف أسرة ناتان اليهودي وتعيش علي أرض فلسطين,وتأتي الحبكة الدرامية لكاتب المسرحية ليسينج فيجعل ناتان يحكي قصة الخاتم السحري ليثني صلاح الدين عن قراره بزواج العشيقين…وهي قصة خاتم سحري يجعله حاملة بين أهله وعشيرته الآمر المطاع لما يتحلي به من قيم إنسانية رفيعة وآراء سديدة وطول باع.خشي صاحب الخاتم وهو علي فراش الموت من اقتتال أولاده الثلاثة – وهم الأديان السماوية الثلاثة حسب الحبكة الدرامية للكاتب ليسينج – بسبب رغبة كل منهم في امتلاك الخاتم والتحلي بالصفات فقام بتصنيع خاتمين تقليد وأعطي خاتما لكل واحد من الثلاثة وبعد وفاة الأب اقتتلوا فعلا من هو حامل الخاتم الحقيقي ووصلوا إلي ساحة القضاء,وتحير القاضي وهورب العالمينفي إصدار حكمه فناشد الثلاثة أي الأديان الثلاثة أن يتحلي كل منهم بصفات من يحمل الخاتم السحري الحقيقي وأن يسلك كل منهم تجاه الآخر سلوكا إنسانيا تسامحيا فاضلا.
كانت الخلفية الثقافية والأدبية لزوج هذه المرأة تزيد دهشة وإعجابا بهذه الامرأة من زمن الحب الأصيل ويعاود هاجس السؤال عن سبب تسامحها الفطري والعفوي.
وفي ساعات الصفا وما أكثرها خصوصا بعد تقدم قطار العمر الذي قطع مسافة تربو علي الثلاثين عاما – ولكن والحمد لله لم تكن هناك أية سلبيات تاركة لأي رواسب-وفي إحدي ساعات الصفا التي علمت صدفة بفحوي حديثهما بمثابة ساعة الصفر في تفسير دهشتي وإعجابي بهذه الامرأة من زمن الحب الأصيل,عندما حكت هي لزوجها في صغرها أنها ارتوت بماء التسامح والإنسانية السامية,فلقد حدث خلال فترة رضاعتها أن مرض شقيقها بمرض التيفود واستوجب الأمر – بأمر من الأطباء – عزلها عن شقيقها المريض كي لا تنتقل العدوي إليها فنقلها والدها إلي شقة خالتها في نفس عاصمة المحافظة التي ولدت فيها,حيث كان يسكن في الشقة المقابلة لشقة خالتها طبيب جراح مسيحي يشار إلي كفاءته الجراحية بالبنان,وواجهت الطفلة الرضيعة مشكلة إرضاعها ولكن الله قدر فشاء أن كانت زوجة الطبيب الجراح المشهور ترضع آنذاك ابنها الرضيع نبيل فأقسمت بأيمان مسيحية مغلظة أن تشارك هذه الطفلة الرضيعة مع طفلها نبيل لبنها الطبيعي فشاء الله وقدر لها ذلك,تلك الطفلة الرضيعة التي هي الآن امرأة من زمن الحب الأصيل.ارتوت بهذا اللبن الطبيعي الرباني ونمت وترعرعت ونما معها وترعرع سلوك تسامحي ليس له حدود,سلوك راسخ يكاد يكون فطريا قائما علي أن الله محبة والبشر جميعا مخلوقاته جلت عظمته مهما تباينت ألوانها واختلفت عقائدها,وبعد فوات الكثير من العمر علمت هذه الامرأة من زمن الحب الأصيل أن شقيقها المسيحي في الرضاعة هو الآن طبيب جراح مشهور سار في تخصص الجراحة علي درب أبيه يشكره علي صفحات الجرائد كل من كتب له الشفاء علي يديه مسيحيا كان أم مسلما ويعمل بأحد المستشفيات في العاصمة المحروسة,وتتعاظم الحبكة الحياتية وكأنها درامية لهذه الامرأة من زمن الحب الأصيل لتكون كالتي يستلهمها الأدباء في أعمالهم الأدبية,فتستمر طبيعتها التي تفيض بالتسامح والمحبة وذلك عندما أراد الله لابنتها التي تحلت بثقافة أجنبية أن تتزوج من شخص مسلم جنسيته أوربية وكأن الله – جل شأنه – قد رسم لهذه الامرأة من زمن الحب الأصيل دائرة حياتية مركزها هي ومحيطها يفوح بفيض من المحبة والتسامح.
أطال الله عمر هذه الامرأة من زمن الحب الأصيل وأكثر من أمثالها في عصرنا الذي يفتقد كثيرا للمحبة الخالصة والتسامح الأصيل.