مرة أخري يقف الاقتصاد العالمي علي شفير الهاوية, فقبل ثلاث سنوات فقط كانت أمريكا هي مركز الأزمة العالمية واليوم أصبحت أوربا في عين العاصفة, وفي أثناء ذلك سيطر شعور طاغ من الشك وعدم اليقين إزاء المستقبل علي المواطنين العاديين والمستثمرين حول العالم ليتسرب الإحباط والغضب إلي الشوارع, ومرة أخري تجد مجموعة العشرين نفسها مدعوة للتحرك السريع لمنع الانحدار نحو انكماش اقتصادي, أو حتي الدخول في مرحلة جديدة من الركود, والحيلولة دون لجوء الدول إلي انتهاج سياسات حمائية والتنافس علي خفض قيمة العملات, وخلال قمة العشرين في مدينة ##كان## الفرنسية يتعين علي الدول المشاركة الاعتراف بأنه في الاقتصاد العالمي المتشابك لا توجد قوة اقتصادية بمنجي من التقلبات الاقتصادية, وذلك أن البلدان المتقدمة والناشئة علي حد سواء معرضة للمشكلات وأعراض الهشاشة الاقتصادية والاضطرابات المالية, وتبقي الاستجابة الوحيدة علي هذه التحديات هي التعاون الفعال مع الدول الأعضاء في مجموعة العشرين والقيام بالتقويمات الضرورية, فضلا عن ضرورة التوصل إلي توازن صحي بين القوي الاقتصادية المختلفة. وفي هذا السياق يتعين علي القادة السياسيين الإقرار بتداخل المصالح الاقتصادية داخل مجموعة العشرين والحاجة إلي بناء شبكة من المصالح تضم دول العشرين ثم تتمدد إلي غيرها من الدول; فتحت قيادة ساركوزي, يتعين علي دول مجموعة العشرين تطوير استراتيجية عالمية تدعم النمو وتخلق الوظائف الشحيحة, علي أن تتولي كجزء من هدفها توسيع الفوائد والعائدات الاقتصادية لتشمل جميع فئات المجتمع وتقليص فوارق الدخل في البلدان المعنية وحتي فيما بينها.
واليوم ونحن أمام الأزمة الأوربية المستفحلة من الواضح أن القارة العجوز هي محور الاهتمام في قمة مجموعة العشرين, فالاتفاق الأخير الذي تم التوصل إليه بين دول الاتحاد الأوربي لإنقاذ اليونان, والذي يشمل تخلي أصحاب السندات عن جزء من ديونهم والزيادة في قدرة الصندوق الأوربي لدعم الاستقرار المالي علي التدخل برفع قيمته إلي تريليون ##يورو##, ثم إعادة رسملة البنوك الأوربية لاشك أنه يساهم في التخفيف من حدة الأزمة, ولكن كما أثبتت الأسواق المالية, التي ظلت متخوفة, لا يمكن حل المشكلات الأوروبية في أبعادها المالية والمصرفية والسياسية إلا بتبني سياسة لا تعيق النمو علي المدي القصير ووضع سياسات ذات مصداقية علي المدي الطويل تروم خفض العجز المالي, فلو أن الجميع سار في طريق التقشف فلن يكون ممكنا ترميم الموازنات المختلة, كما أنه في ظل العجز الكبير وأسعار الفائدة المرتفعة ليس أمام الحكومات سوي تقليص الموازنات العامة والحد من الإنفاق المحفز للنمو. والأمر يختلف طبعا بالنسبة للبلدان التي لم تتضرر أوضاعها المالية كثيرا مثل ألمانيا, حيث توجد فرص أكبر لتحقيق النمو الاقتصادي. وفي ظل هذا الواقع المتأزم لا تستطيع اليونان وباقي دول الفضاء الأوربي بلورة استراتيجية فعالة لتنشيط النمو دون مساعدة من منطقة ##اليورو##, فتلك الدول المتعثرة لا تستطيع التحرك دون التحكم في سعر الصرف ومعدل التضخم الذي لم يعد بيدها بعد تبنيها العملة الأوربية الموحدة. وبدون التكامل المطلوب بين البلدان الأوربية وتنسيق السياسات فيما بينها ستستمر تداعيات أزمة الديون السيادية الأوربية, علي غرار أزمة الرهن العقاري الأمريكية, في إعاقة النمو الاقتصادي. وعلي رغم سعي أوربا إلي مساعدة خارجية, لاسيما من الاقتصادات الناشئة الأقل تضررا من الأزمة, يبقي أن البنك المركزي الأوربي هو الملاذ الأخير لتقديم القروض.
ولم يعد خافيا علي أحد اليوم أنه يتعين علي القادة الأوربيين الالتزام بقدر أكبر من الاندماج المالي وتعزيز التنسيق الاقتصادي والمضي قدما نحو الوحدة السياسية, وإلا ستكون النتيجة انهيار ##اليورو##. وإذا أرادت دول مجموعة العشرين الحفاظ علي مصداقيتها خلال الجولة الثانية من الاضطرابات العالمية فإن عليها الالتزام بجميع الوعود التي قطعتها علي نفسها في الاجتماعات السابقة, وعلي رأسها تعزيز القدرة الرقابية لصندوق النقد الدولي لتقييم سياسات الدول المفضية إلي زعزعة النظام العالمي, وإعادة النظر في الحصص المخصصة للدول بما يعكس الوزن المتنامي للاقتصادات الناشئة, وهو ما يحتم التسريع في إعطاء صلاحيات أكبر للدول الناشئة ما دامت هذه الأخيرة يلجأ إليها الآن لمساعدة الأوربيين علي ضمان استقرارهم المالي.
ولكي تتحول مجموعة العشرين إلي مؤسسة عالمية قادرة علي حماية المصالح الاقتصادية للدول علي المدي البعيد فإن عليها هي أيضا التفكير في إحداث لجنة تنفيذية بسكرتارية دائمة وذلك لضمان استمرارية السياسات وتتبعها. وعلي غرار مجلس الأمن الدولي يتعين علي اللجنة التنفيذية ضم أعضاء دائمين يمثلون مختلف المناطق. وفي هذه المرحلة الدقيقة التي يكثر فيها الحديث بين الدول عن الرجوع إلي السياسات الحمائية علي مجموعة العشرين التأكيد مرة أخري علي فوائد التجارة الحرة وفتح المجال أمام الاستثمارات العالمية من خلال استكمال جولة الدوحة حول التجارة لما تتيحه من فتح الأسواق ونفاذ السلع والخدمات وتحقيق النمو. وأخيرا لابد من الإقرار بأننا نمر بمرحلة تحول هيكلية ذات أبعاد تاريخية, فمجموعة السبعة الكبار التي تقودها الولايات المتحدة لم تعد قادرة علي حماية الاقتصاد العالمي وضمان الاستقرار والازدهار. كما أن الاقتصادات الناشئة, وعلي رغم المستقبل الواعد الذي ينتظرها مثل الصين, ليست قادرة بعد علي إنقاذ الاقتصاد العالمي, ولذا لا يبقي أمامنا سوي التعاون بين البلدان المتقدمة وتلك الناشئة في إطار مجموعة الدول العشرين لإعادة التوازن إلي الاقتصاد العالمي وخلق الآليات المناسبة لإنعاش النمو.
* نيكولاس بيرجرين
رئيس ##مجلس القرن الحادي والعشرين##
* ناثان جاردلز
مستشار اقتصادي بارز في المجلس نفسه
* * كريستيان سيانس مونيتور