بوتيرة متسارعة خرج الرئيس التونسي زين العابدين بن علي من مسرح الأحداث مساء الرابع عشر من يناير 2011 لتحط طائرته أخيرا بعد ست ساعات طيران لعدد من المطارات- في مطار جدة علي أثر انتفاضة شعبية تلاحقت أحداثها وانفلتت بأعمال شغب وسلب ونهب.. ولكن كانت البداية بفعل البطالة والغلاء والفساد.
قبل رحيله بساعات أعلن بن علي في خطاب اتسمت لهجته بالتهدج والتراجع أنه سوف يطالب الأمن بعدم إطلاق الرصاص الحي علي المتظاهرين وألا يرشح نفسه في عام 2014 وأن يفتح طاقات الحرية والتعبير وتفعيل مناخ الديموقراطية وإعادة حرية الإعلام بما فيه الإنترنت الذي كان محرما بحكم القانون التونسي… لكن عباراته جاءت متأخرة علي حد تعبير المراقبين وجاء الرحيل.
لم تكن الأحداث صادمة بل سببا مباشرا لسلبيات طالما استثارت العديد من منظمات حقوق الإنسان والتي صنعت نظام حكم بن علي بغير الديموقراطي والذي لا يراعي معايير الحقوق السياسية حيث احتلت تونس في مؤشر الديموقراطية لصحيفة إيكونوميست في عام 2010 المرتبة 144 من بين 167 دولة شملتها الدراسة.. وفي مؤشر حرية التعبير احتلت المرتبة 143 من أصل 173 دولة في عام .2008
وفي آخر زيارة لها عبرت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس عن قلق الولايات المتحدة من إهدار تونس للحقوق السياسية والمدنية وتدهور الظروف المعيشية, وبعدها أقرت السلطات بالحوار مع الشباب في عام 2009 وأجازت حق الانتخاب لمن يبلغ 18 سنة لكن ذلك من وجهة نظر محللين جاء لتهدئة ثورة الشباب ولتفادي حالة الانفلات شبيها بالحالة التي جرت أواخر عهد بورقيبة.
أزمة تونس وإن كانت سياسية إلا أن انحراف المسار الاقتصادي وتأثيره بالسالب علي شريحة الشباب كان القشة التي قصمت ظهر البعير… فالنظام الاقتصادي التونسي يعتمد علي سوق واحدة هي الاتحادالأوربي وحتي الصناعات التي تنتشربالبلاد معظمها يعتمد علي الأيدي العاملة الرخيصة كالمنسوجات والملابس وغيرها وهي صناعات غير جاذبة لشريحة الشباب المتعلم بالجامعة ومن ثم ارتفعت نسبة البطالة إلي 14% وبلغ العاطلون نصف المليون شاب ممن لا يجدون فرص العمل التي تناسب تخصصاتهم.
إذن الأزمة جاءت وفقا لرؤية عدد من المحللين نتيجة خطوات إيجابية في مسارات التعليم حتي باتت الأمية تمثل 10% فقط من تعداد الشعب البالغ عشرة ملايين, والصحة تزامنت مع فشل حكومي في توظيف الطاقات العلمية التي تطرحها الجامعات كل عام, وداخل مناخ استثماري ضيق ومخنوق وغير جاذب للاستثمار الأجنبي.
زاد من عمق الأزمة استحواذ ثلاث عائلات لا أكثر علي الاقتصاد كما تشير التحليلات- هي الطرابلسي وبن عياد وبن بدر وهي عائلات متصاهرة ولديها كوادر تفرض سيطرتها فضلا عن امتلاكها شركات الاتصالات والإنترنت والسياحة ومساحات شاسعة من الأرض الزراعية وهو ما وصف بالقبضة الحديدية علي الاقتصاد القومي.
ولد زين العابدين بن علي في 3 سبتمبر 1936 بمدينة حمام سوسة وأثناء دراسته انضم للمقاومة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي فطرد من المدرسة وأدخل السجن- لكنه استأنف دراسته حتي مرحلة ما قبل الجامعة.
بعدها قرر الحزب الحر الدستوري الجديد سفره لفرنسا تمهيدا لتحضيره كعنصر فاعل للنواة الأولي لما سيكون عليه الجيش الوطني, وهناك حاز شهادات في الشئون العسكرية والأمن وفي مجال الإعلام وبالولايات المتحدة تخرج في مدرسة المدفعية المضادة للطائرات وحصل علي شهادة مهندس إلكترونيات.
لما عاد بن علي لتونس تسلم جهاز الأمن العسكري وظل يترأسه لعشر سنوات عمل بعدها ملحقا عسكريا في المغرب وأسبانيا فمديرا للأمن الوطني في عام .1977 كما عين سفيرا لبلاده في وارسو لأربع سنوات ليعود إلي تونس كوزير دولة ثم وزيرا مفوضا للشئون الداخلية قبل أن يتسلم وزارة الداخلية في 28 أبريل 1986 ثم رئيسا للوزراء في حكومة الرئيس الحبيب بورقيبة في أكتوبر 1987 حيث كانت البلاد تمر بأزمة اقتصادية وسياسية عاصفة.
رأي مؤيدوه أنه يحسب له انفتاحه الشديد علي أوربا لكن خصومه اتهموه بشن حرب علي الإسلام السياسي ورموزه حين منع الحجاب الذي وصفه بالزي الطائفي وإعادته لبعض التيارات الإسلامية إلي البلاد كالصوفية والسماح للكنائس الغربية بحرية العبادة.
في السابع من نوفمبر 1987 نفذ زين العابدين ومعاونوه خطة إزاحة الحبيب بورقيبة عن سلطة رئاسة البلاد وذلك بالاستناد إلي تقرير طبي حرره سبعة أطباء مباشرين للرئيس بورقيبة يقر عجزه التام عن الاضطلاع بمهامه الرئاسية, ومن خلال بيان شهير استمع له كل التونسيين وتضمن معظم تطلعات الشعب التفت حوله التونسيون والنخب حيث كانت البلاد قد بلغت حدا كبيرا من التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
في بداية حكمه فتح بن علي لأول مرة منذ استقلال تونس عن فرنسا في مارس 1956- قصر قرطاج أمام الأحزاب والمثقفين من خارج الحزب الدستوري الحر الحاكم. لكن في أجواء حرب الخليج الثانية إندلعت المواجهة بين السلطة وحركة النهضة الإسلامية ومن وقتها تغير أسلوب تعامل النظام الحاكم مع المعارضة والمجتمع المدني وانكشفت نوايا بن علي بعدم الميل لتداول السلطة وتجسيد الحياة الديموقراطية كما تعهد في بيانه الشهير علي الرغم أنه في البداية أشرك أطيافا عديدة في اللعبة السياسية بمن فيهم الإسلاميون, وما أن شعر باتساع قاعدتهم حتي تحول إلي المواجهة.
في عام 1999 أي بعد 12 سنة من الحكم أجري بن علي أفضل انتخابات تعددية وصفت بالقانونية وحسمت لصالحه. بعدها أقدم علي تعديل الفصلين 39و40 من الدستور وبمقتضاه ألغي الحد الأقصي لتقلد المنصب الرئاسي مما منحه الحق في الترشيح بانتخابات 2009 للمرة الخامسة كما منح تراخيص عمل الأحزاب غير فاعلةوذات نشاط سياسي ضئيل مثل حزب الخضر والاتحاد الديموقراطي, وفي الوقت ذاته واصل حصار حركة النهضة وحزب العمال الشيوعي وزادت ملاحقة المعارضة والاعتقالات الأمر الذي أثار جدلا حقوقيا واسعا داخل وخارج تونس.
قال محللون: من المؤكد أنه لم يدر بخلد الشاب محمد بوعزيزي البائع التونسي المتجول أن احتجاجه علي مصادرة بضاعته من قبل رجال الأمن في بلدته سيدي بوزيد ستطلق شرارة الاحتجاجات العارمة للشباب العاطل فكانت نهاية 23 سنة من حكم زين العابدين بن علي.
المثير أن بو عزيزي البالغ من العمر 26سنة والحاصل علي مؤهل جامعي أقدم علي إضرام النار في نفسه بعد تعرضه للضرب علي أيدي الشرطة في 17 ديسمبر الماضي لعدم حصوله علي تصريح ببيع الخضروات والفاكهة, ولما توجه إلي إدارة البلدية مطالبا باسترداد عربته صفعته إحدي الموظفات علي وجهه فخرج وأضرم النار في جسده وتوفي بعد أسبوعين عقب زيارة الرئيس له في مستشفي بن عروس, وبعدها انطلقت مظاهرات البطالة والغلاء في سيدي بوزيدومنها لباقي مدن تونس وانضمت لها كل الأطياف السياسية ولم تنجح قوات الأمن أو الجيش في وقفها.
ترددت أنباء أن الفريق أول رشيد عمار كان له دور في خروج بن علي من البلاد وأنه خير بين إطلاق الرصاص علي المتظاهرين أو الإقالة فاختار الثاني لكن أنباء أخري رددت أنه لم يستقل وظل محل احترام السلطة والشعب اللذين يلقبونه بالجنرال الموثوق به شعبيا.
أم الخطايا التي ارتكبها الرئيس حمايته لزوجته وإخوتها الذين وصفوا بالأكثر جشعا بعد أن سيطروا علي معظم ثروات البلاد وبلغ الأمر لدرجة أن التونسيين باتوا متأكدين أن لدي ليلي الطرابلسي زوجة الرئيس من السلطة ما لا يملكه رئيس الوزراء (الوزير الأول).
حصلت ليلي- ابنة بائع الخضار المعلم طرابلس كما اشتهر عنها- علي الشهادة الابتدائية ثم التحقت بمدرسة تعليمالكوافير وعملت بالمهنة عدة سنوات بعدها تزوجت من رجل أعمال قبل أن تتزوج بن علي وتصبح سيدة قصر قرطاج. أما كيف التقت الرئيس فذلك حدث أثناء قيامها بتجارة بعض السلع بين تونس وإيطاليا حتي وقعت في قبضة البوليس وسحب جواز سفرها فالتقت بمدير الأمن العام وقتئذ زين العابدين بن علي وكان اللقاء الذي أدي لزواجهما.
أشار بعض المراقبين إلي أن تسريبات ويكيليكس كانت من أسباب اشتعال ثورة التونسيين بعدما أشارت إلي وقائع فساد متعددة لعائلة زوجة الرئيس باستغلال نفوذ والسيطرة علي قطاعي الاستثمار والأعمال, وفي رد فعل مثير قال العقيد معمر القذافي للتونسيين: تسريبات ويكيليكس ضحكت عليكم… فهل ضحكت أم ذكرت كبد الحقيقة وأم الخطايا؟!