ولدت في قرية في وجه بحري بها كنيسة واحدة, تقع بالقرب من منزل جدي. وكنت أسمع في طفولتي صوت أجراسها يملأ الفضاء. وعندما كان جدي يستيقظ ويهم بالوضوء, ظننت أن الأجراس تحتفل به وتناديه للصلاة. ربما كانت, ولما لا؟
في قري مصر ونجوعها, تجد صوت أجراس الكنائس يمتزج في توافق تام مع الآذان للصلاة من المساجد. دعوة لكل تائه. وشفاء لكل نفس معذبة. وتجد أهل الريف المسلمين, يقومون بوضع الكحل في عيون أطفالهم, احتفالا بسبت النور. حتي لا يؤذيها الضوء المنبعث من قبر السيد المسيح, كما هو الاعتقاد عند إخواننا المسيحيين. ولقد رأيت بعيني في الخمسينيات الفلاحات وهن يحملن أطفالهن, ويأتين أفواجا إلي جدتي, لكي تضع الكحل في عيون الأطفال. وعندما سألتها لماذا؟ أجابت## يا إبني سبت النور##. فظننت أنه عيدا إسلاميا.
ونجد الفلاحين المسلمين يحتفلون بعيد القيامة وعيد الميلاد المجيد, بتعليق سنابل القمح الجافة وسعف النخيل علي الأبواب والنوافذ. هذا ما رأيته أيضا بنفسي أثناء طفولتي. وتجدهم أيضا يأكلون السمك يوم الجمعة من كل أسبوع. وهي عادة لا تزال سارية في بلدتي حتي الآن.
البلدة كلها, أقباطها ومسلموها يأكلون السمك يوم الجمعة, وهم لا يعلمون السبب. عادة لا تزال سارية منذ أكثر من ألف سنة. اكتسبوها عندما كانت مصر, جل أهلها تدين بالمسيحية. ونحن المصريون الآن, أو إلي أن غادرت مصر في نهاية الستينيات, مازلنا نحتفل جميعا بعيد الغطاس, بشراء قصب السكر والبرتقال في كل عام. ونجد أيضا الإخوة المسيحيين, يعملون الكحك والكنافة والقطايف طوال شهر رمضان. أليس هذا كله دليلا علي أننا شعب واحد؟
عيد شم النسيم هو في الأصل عيد مصري قديم, منذ أيام أجدادنا الفراعنة. كان قدماء المصريين ينتظرون إلي أن يكتمل البدر في منتصف فصل الربيع. ويتخذون هذا اليوم عيدا للربيع. لماذا؟ لأنهم يريدون أن يختاروا أجمل أيام السنة. يوما يعتدل فيه الجو, ويغمر بنوره الكون ليلا ونهارا.
عندما يكون القمر بدرا, يشرق بعد غروب الشمس مباشرة. ويغرب قبل شروقها في اليوم التالي مباشرة. وبذلك يكون يوم شم النسيم يوم الضياء الذي لا ينقطع, مدة 24 ساعة. كان عيد الربيع هذا عيدا قوميا كبيرا من أعياد هذا الشعب العظيم. يحتفل به بتلوين البيض بألوان الطبيعة والحياة. وأكل السمك المملح والملانة والخس. تخرج الأسر بأطفالها إلي الحقول للتريض وشم النسيم العليل, والفسحة علي الأقدام وركوب المراكب الشراعية في النهر المقدس.
عندما دخلت المسيحية مصر, وتصادف وقوع عيد الربيع في فترة صيام الأقباط, وحتي لا يلغي الإحتفال بالعيد القوي العظيم, كان لا بد من تأجيل ميعاده إلي ما بعد انتهاء الصيام. لذلك تقرر أن يكون يوم الاثنين, التالي ليوم أحد عيد القيامة عند الأقباط. لهذا أري أن عيد الربيع هو عيد الوحدة الوطنية, ورمزا من رموزها الحقيقية علي مر التاريخ. وهو أجمل وأصدق في رأيي من شعار الهلال والصليب.
لم نسمع في التاريخ القديم منه والحديث, بقيام هجرات جماعية من الدول العربية أو الإسلامية إلي مصر. كما حدث ويحدث في فلسطين وأمريكا وكندا وأستراليا. يمكن أن نستدل منها علي أن المصريين المسلمين, هم جنس آخر غير جنس المصريين الأقباط. في الواقع كلمة قبطي تعني مصري ولا تعني مسيحي.
القصة كما ترويها لنا كتب التاريخ, هي أن مصر كانت قبل الميلاد تدين بعدة ديانات مختلفة في آن واحد. مصر القديمة عرفت التسامح الديني قبل أي شعب من شعوب الأرض. علي أرض الكنانة, كانت ديانات إيزيس وآمون ورع وست ومعابدهم المختلفة وكهنتهم المخلصين, يتعايشون في سلام ومحبة منذ فجر التاريخ. وحينما حاول إخناتون فرض ديانته الجديدة بالقوة علي باقي الأديان, فشل وانتصر التسامح الديني. وكان المرضي الذين يدينون بديانة آمون, يذهبون إلي معبد إيزيس طلبا للبركة والشفاء العاجل. كذلك الذين يدينون بديانة إيزيس, يذهبون إلي معبد الكرنك طلبا للعفو والمغفرة. وكان الكل يطلب الخلود بالتمسك بالخلق القويم, والعمل الصالح والبعد عن الخطيئة. ويطلب الرحمة لأمواته, بزيارة القبور وتوزيع الوجبات والصدقات علي أرواح موتاه. وهي عادة لا تزال قائمة بيننا إلي اليوم. وتجد الآن, آلاف المسلمين تشارك إخوانهم المسيحيين الاحتفال كل عام, بمولد القديس الروماني مار جرجس في أرمنت محافظة قنا.
كان أعز أصدقاء والدي رجل قبطي اسمه رمزي تكلا. في يوم من الأيام وأنا صغير, رآني أركب القطار. فاقترب مني لكي يسألني عن والدي وسبب سفري بمفردي. ثم فجأة وجدته يطلب مني تغيير مكاني في القطار. وكنت أجلس مستريحا بجوار النافذة. وقال لي بعد أن انتقلت, أنه لاحظ أن الرجل الذي يجلس أمامي في القطار مريض ودائم السعال. فخاف أن تنتقل العدوي لي. إنه كان يعتبرني مثل ابنه تماما.
كان أحب المدرسين إلي قلبي, الأستاذ خليل القبطي مدرس الرياضيات. وكان هو السبب في حبي لهذه المادة, التي جعلتها دراستي وتخصصي. وكان أحب مدرسي الجامعة إلي قلبي, الدكتور ملتيادي حنا. الزعيم الوطني وأول مصري يحصل علي درجة الماجستير في الرياضيات, أيام الاحتلال البريطاني. وكان أثناء المحاضرات, يذكر لنا ذكرياته وكفاحه ضد الإنجليز. إذا كانوا لا يحرصون علي تقدم البلد وازدهارها. فحينما عاد من بعثته من إنجلترا, وبدلا من أن يأخذ مكانه المناسب في الجامعة, أرسله الإنجليز للتدريس في المدارس الابتدائية. وأيضا الدكتور فهمي إبراهيم والدكتور حليم مقار, وغيرهما الكثير من ذوي العلم والخلق. فمن منا لم يتعلم علي أيدي مدرسين أقباط. ومن منا من لم يعالج بأطباء أقباط؟
كنت في مصر أقف أمام منزل العائلة. فجاء لي رجل قبطي كان يسكن في الشارع الخلفي ومعه خرطوم طويل جدا ملفوف من البلاستيك الشفاف. وطلب مني بأدب أن أصل الخرطوم بالصنبور حتي يستطيع ملأ خزان المياه في داره. لأن منزله ليس به مياه. ولكي تصل مياه المجلس إلي داره, عليه أن يدفع مصاريف التوصيلة من الشارع الرئيسي. وكان هذا في غير مقدوره.
المهم, رحبت به, وقمت بوصل بداية الخرطوم بالصنبور الأرضي بمنزلنا. ونظرت فوجدت الخرطوم طويل جدا ومتهالك وملحوم وبه العديد من الثقوب. يمتد في الشارع, وعلي الأرض مسافة لا تقل عن 200 متر. وما أن تدفقت المياة في الخرطوم, حتي وجدت المياه تخرج من كل مكان. ولا يمكن أن تصل إلي نهايته.
وقف الرجل حائرا لا يدري ماذا يفعل. ووقفت حائرا بجواره. وإذا بسكان المنطقة الذين كانوا يشاهدون التجربة من البلاكونات. يهرولون بالمساعدة, يحضر بعضهم شرائط لاصقة من داره, وآخرون يحضرون حبالا وقطع قماش وأسلاكا. وقاموا في خلال دقائق معدودة, بعلاج كل الثقوب والتمزقات التي كانت بالخرطوم. هذه أخلاق الشعب المصري وغريزته الموروثة التي لا تعرف قبطي ومسلم, من عهود القدم, والتي نكاد نفتقدها بغبائنا وجهلنا.
من قال إن الشعب المصري ينقسم إلي قسمين, أقباط ومسلمين؟ وأين حدود القسمة بالضبط؟ إذا كانت موجودة, أريد أن أراها أو يدلني عليها أحد. إذا كانت جينات الإنسان تتفق مع جينات قرود الشمبانزي إلي درجة مذهلة, فهل يمكن أن نأتي الآن ونقول إنه هناك فرق بين جينات القبطي وجينات المسلم؟ الفرق بين القبطي والمسلم لا يوجد إلا داخل عقولنا المريضة وقلوبنا السوداء.
إذا جلس مسلم مصري بين أقباط مصريين, هل تستطيع أن تعرفه وتميزه وتقول هذا هو المسلم؟ وإذا حدث العكس, هل تستطيع أن تتبين القبطي بينهم؟
أربع رضعات, أو خمسة مشبعات من نفس الثدي, تجعل الطفلين أخوين. فما بالك بمن يأكلون من نفس الأرض ويشربون من نفس النهر جل عمرهم. أليسوا إخوة وأخوات. يا عالم فهموني. هل بسبب حبي لمحشي الكرنب, أكفر ##إللي## يحب محشي الباذنجان؟ وهل من المعقول أن يكفر الأهلاوي الزملكاوي؟ و##مال الخلطابيطا## الموجوده في رؤوسنا وشغلانة الوطن والمواطنة؟
##وإيه موضوع الخط الهمايوني إللي عامل الدربكة الفارغة دي؟ يا ناس عيب. وعيب التخلف الشديد ده##. هذه بواقي ورواسب العصور الوسطي, وعصور الانحطاط. المطلوب قانون واحد وبس. ينظم شئون دور العبادة, وينطبق علي الجميع##.
إيه لازمة خانة الدين في البطاقة الشخصية؟ علشان وعلشان. طيب ياسيدي اعمل بطاقتين. واحدة خاصة دينية تصلح للزواج والوفاة والمستشفيات, إلخ. وأخري بطاقة عامة للوظائف والأمور المدنية. الهدف من إزاحة هذه الخانة الرديئة من البطاقة الشخصية, هو محاربة التفرقة البغيضة بسبب الدين, والتي لا نستطيع إنكارها.
لماذا الإصرار علي النص في الدستور, علي أن يكون للدولة دين؟ عمري ماشفت دولة لها دين. الدين يكون للأفراد وليس للدول. الدول لها قوانين ودساتير وميثاق وطني وعقد اجتماعي, لتنظم العلاقات بين الأفراد والمؤسسات. لكن أن يكون للدولة دين, فهذا أمر عجب. يعني الدولة تقدر تصلي وتصوم وتحج وتقيم الشعائر زينا؟ وهل الدول العلمانية, سكانها كفرة لا دينيين؟ إيه رأيك أن الدول العلمانية, هي التي تحمي الأديان, وهي التي تمارس فيها شعائر الأديان وطقوسها بحرية وأمان.س
إذا كان دين الدولة الإسلام فما هو وضع الإخوة الأقباط وغير المسلمين؟ في هذه الحالة هم ليسوا مواطنين مصريين إنما متسللين أجانب. فمن يرضي بهذا الوضع المذري. لو كانت الأغلبية من الأقباط, فهل يقبل المسلمون أن يأتي دستور أو قانون يصنفهم علي أنهم غير مواطنين وخارج اللعبة.
ما يمنعنا من إصدار قانون يجرم التفرقة بسبب الدين, كما هو الحال في كل بلاد الدنيا؟ تكون عقوبته رادعة لكل النفوس المريضة الغبية, التي تتسبب بغبائها في ضياع الأوطان.
هل هناك سبب بيولوجي أو منطقي أو نفسي يمنع أن يكون رئيس الدولة أو رئيس الوزراء قبطيا, متي ثبتت كفاءته لهذا المنصب؟ الرئيس الأمريكي أوباما تم انتخابه عندما تبين للشعب الأمريكي أنه الأكفأ بين المرشحين. ونحن لا نقل عن الشعب الأمريكي كأفراد وجذورنا الحضارية أعمق وأصلب.
عندما يحدث شجار بين مسلم وقبطي, ويعتدي أحدهما علي الآخر تقوم الدنيا ولا تقعد. الكل يدلي بدلوه ويلقي من الشعر أعذبه وأكذبه. وينتهي الهرج والمرج بالمصافحة والأحضان وكله تمام. ولا يأخذ الجاني جزاءه. ويظل المواطن القبطي يغلي بسبب إحساسه بالظلم والغبن. يا سادة هذا تهريج وفوضي. إذا اعتدي مواطن علي آخر, ما دخل هذا بمنظومة القبطي والمسلم. ولماذا لا يأخذ الجاني عقابه وفقا للقانون وينتهي الأمر.
مشكلة الأقباط موجودة لأن الدولة ليست ليبرالية وعلمانية. الدول الليبرالية والعلمانية ليس فيها هذا الهراء. ومطالبة الإقباط بحقوقهم خارج نطاق هذا الإطار هو مضيعة للوقت. ويعرض أمن الوطن للخطر. لأنه يعمق الاستقطاب بين الأقباط والمسلمين. فهل يكون الأقباط سعداء إذا أخذوا حقوقهم كاملة, وتحولت مصر إلي دولة دينية مثل إيران؟
القضية هنا أكبر من أن تقتصر علي حقوق الأقباط المهضومة. بقدر ما هي حقوق المصريين المسلوبة. الدفاع عن الحقوق هنا لا يجب أن يقتصر علي فئة معينة. إنما يجب أن يكون لكل المصريين. فالحق لا يتجزأ. والعدل لا يختلف بالنسبة للمسلم والقبطي. وحقوق الإنسان قضية عامة تنطبق علي كل الأفراد. رجل أو امرأة. مسلم أو قبطي. بهائي أو شيعي أو يهودي. فعلينا أن نثبت للعالم أننا شعب أرقي من صهاينة بني إسرائيل.
تقسيم الشعب وتجزئته إلي دوائر كبيرة وصغيرة, مربعات ومثلثات, سوداء وحمراء وخضراء, يخلق مفهوم نحن وهم. فكل من بداخل الدائرة لنا. وكل من بخارجها علينا. من هنا تأتي العداوة والكره والحقد بين أفراد الشعب الواحد.
جهود الأقباط, وجهود الشعب المصري, يجب أن توجه في اتجاه علمانية الدولة وليبراليتها. لكي نرجع كما كنا قبل عام 1952 عندما تغرز العربة في الوحل, يكون من الأفضل الرجوع للخلف أولا قبل التقدم في الطريق الصحيح. لأن الدوس علي البنزين سوف يجعل العجلات تدور علي الفاضي ونظل في مكاننا محلك سر.
هناك مشاكل كثيرة مثل مساواة المرأة بالرجل, وحقوق الأقليات الأخري الدينية. البهائيون وغيرهم. وهي قضايا مهمة أيضا تنتظر من يثيرها ويتبناها. ولقد قلت في اجتماعات كثيرة مع الإخوة الأقباط, أن مشكلة مصر هي ليست حقوق الأقباط أو حقوق البهائيين بمعزل عن حقوق الشعب المصري جميعه. كل مشاكل الأقباط والأقليات سوف تحل من نفسها, إذا أخذ الشعب المصري حريته وأضاءت ربوعه مبادئ التنوير والليبرالية.