تطالعنا الصحف القومية مع طلعة كل شمس وعلي مدي الخمسين سنة الأخيرة,بتصريحات المسئولين عن تطوير وتحديث التعليم,وتنفض اللجان والمؤتمرات لتنعقد من جديد,ونسمع ضجيجا ولا نري طحنا,فلا تزال ثلاثية ”التلقين والتحفيظ والاسترجاع” محورا للعملية التعليمية,ومدارس الكلام في كلام تعد تلاميذها وطلابها علي طريقة الحمار يحمل أسفارا,ببغاوات عقولهم في آذانهم وحناجرهم هي العقول,ومجموع الدرجات في ثقافة الذاكرة هو الموصل للجامعة,في عصر أصبح فيه حفظة القواعد والمعلومات البرنامجية من القوم المتخلفين.
ولا تزال المصيبة العامة المشهورة باسم ”الثانوية العامة” تتربص بكل أسرة في مصر,والذين أفلتوا منها لا تزال آثار مخالبها الحادة في رقابهم وصدورهم,الفرزة الأولي منهم الذين حققوا مجموع درجات من 95% إلي أكثر من 100%,هم الذين قال فيهم المتنبي لسيف الدولة كافور ”لا تحسب الشحم فيمن شحمه ورم”,يتحولون في كليات القمة إلي الشخصيات المثيرة للأسي في مسرحية موليير ”المتعالمات السخيفات”.
وعلي الجانب الآخر يطالعنا ملحق ”الأهرام التعليمي” صباح كل يوم سبت وعلي صدر صفحته الأولي بشعار يشتعل نارا ولا يضيئ طريقا هو ”معا ضد الدروس الخصوصية”,وفات القائمين علي ”الأهرام التعليمي” أن الدروس الخصوصية ”كدود المش منه فيه”,والمش هنا هو مدارس الرأس الكاسح والجسم الكسيح,ومثلث الرعب ”ثانوية عامة ومجموع وتنسيق”,ومن هنا انشغل الآباء والأمهات عن تربية الأبناء بتعليمهم,فنشأت مدرسة في كل بيت,وأصبحت المنازل تعلم بالثمن الباهظ,والشوارع تربي أرخص تربية,والمدارس هي ”المحل المختار” للحصول علي الشهادة,والشهادة أنتهي تاريخ صلاحيتها منذ أكثر من نصف قرن من الزمان,وأصبحت مثل قمصان المجانين,والدليل ماثل في بطالة الخريجين.
ولا تزال التصريحات عن تطوير التعليم تتوالي علي طريقة البحتري حين قال ”علي نظم القوافي من معادنها,ولاعلي إذا لم يفهم البقر”,وبتنا من فرط التصريحات الوردية منعدمة الأثر نردد من بديع شعر محمود بيرم التونسي قوله ”يا أهل المغني,دماغنا وجعنا,دقيقة سكوت لله!!”.
وقبل نحو ربع قرن من الزمان استفزت تصريحات المسئولين منعدمة الأثر,عمنا الكاتب الصحفي الساخر محمود السعدني.فلاذ بمنبره ”علي باب الله” بعدد مجلة ”المصور” بتاريخ 1984/1/5,وكتب ما نصه ”….وأقترح ضم كل هؤلاء المسئولين كثيري الرغي إلي المسرح القومي,وأنا واثق أنهم سيحلون مشكلة المسرح الكوميدي,فإذا تعذر تنفيذ هذا الاقتراح,ألحقوهم بالمجالس القومية المتخصصة,وقد يسأل سائل: طب دول متخصصين في إيه؟ وأجيب أنهم متخصصون في الهمبكة والدربكة والضحك علي الذقون”.
وحتي لا يكون تطوير تحديث التعليم حديث مواسم ومناسبات يشتعل فجأة ثم يخبو وينطفئ,أو دعوة إلي الغذاء لم يحدد لها زمان أو مكان,أسأل:كيف يمكن تطوير نظام للتعليم تدهورت مقوماته الكبري,وتخلف فيه مضمون التربية,بموازنة تتواري خجلا أمام متوسط قيمة استهلاكنا السنوي من الشاي والسكر والدخان والمعسل؟ وبكلام آخر كيف تمتد موازنة للتعليم لا تتجاوز 25مليار جنيه لتشمل تنمية وتطوير وتحديث المقومات الكبري للتعليم من مبان ومعلم ومعامل وورش وتجهيزات,وتطوير وتحديث مضمون التربية من مناهج ومواد تعليمية وكتاب مدرسي وطرق تدريس وأساليب تقويم وامتحانات؟,وغني عن البيان أن أكثر من 40% من مدارس التعليم الأساسي تعمل بنظام الفترتين,ومدارس التعليم العام من الابتدائي إلي الثانوي والتعليم الفني المهني,تعج فصولها الدراسية بعجيج من التلاميذ أو الطلاب استفادتهم من قبيل المعجزات.
صحيح أن موازنة التعليم بتوجيهات مشددة من الرئيس مبارك,تضاعفت بمتواليات هندسية خلال السنوات العشرين الأخيرة حتي بلغت 25مليار جنيه وكانت 3.2مليار جنيه عام 1981,وصحيح أن موازنة التعليم تلتهم 6% من الدخل القومي,وهي نسبة تقترب من مثيلتها في العالم المتقدم,لكن نسبة ما ينفق علي التعليم من الدخل القومي لأية دولة,لا يعبر عن مدي الاستثمار في التعليم,والأخذ بهذا المؤشر يجعل ”زيمبابوي” في مقدمة السباق الدولي,حالة كونها تنفق 11% من دخلها القومي علي التعليم,لكنها ليست كذلك,لأن دخلها القومي صغير وعدد سكانها كبير ونسبة السكان في سن التعليم كبيرة,ولذلك تأتي ”زيمبابوي” في ذيل قائمة الدول من حيث الإنفاق علي التعليم,ومن هنا كان المؤشر الحقيقي الذي يعتد به هو متوسط الإنفاق السنوي الجاري علي تعليم التلميذ أو الطالب,مقارنا بنظيره في دول أخري,وقد بلغ هذا المتوسط في مصر 171دولارا,مقارنا بإسرائيل 3150دولار,ودول أوربا ما بين 2800دولار و4100دولار,واليابان وأمريكا وكندا ما بين 2700دولار و7200دولار,وصعد في سويسرا إلي 11500دولار,وبالمناسبة يبلغ هذا المتوسط في مصر المحروسة في مدارس اللغات الخاصة ما بين 1100دولار و3300دولار,يدفعها الآباء من حر مالهم عن طيب خاطر لهذه المدارس كمصروفات مدرسية,مقابل تعليم جيد ينتهي بشهادات من نوع I.G. وبها يخطفون كل الفرص من الحاصلين علي شهادات انتهي تاريخ صلاحيتها,وإلي ذلك يستولون علي معظم المقاعد في كليات القمة,وكان طه حسين وقت أن كان وزيرا للممعارف (التعليم حاليا) يضع استقالته في جيبه,ويقول ”علي أن أعلم تعليما جيدا وعلي وزير المالية أن يدبر المال”.
ولما كان ما تقدم,وكان التعليم هو بداية كل شئ في الحياة,ومفتاح قضية التخلف والتقدم برمتها,والمدخل إلي ثلاثية ”الثروة والقوة والسعادة”,والثروة في عصرنا هذا هي ثروة العقول لأنها صانعة القوة,والقوة هي منظومة من التفوق العلمي والتقني والاقتصادي والثقافي والعسكري,والثروة والقوة وجهان لعملة واحدة هي السعادة,لما كان التعليم كذلك,وكانت موارد الدولة لا تستطيع وحدها الوفاء بتكلفة تنمية وتطوير وتحديث المقومات الكبري للتعليم,وتطوير وتحديث مضمون التربية,أقترح ما يلي ليكون بداية حوار لا خاتمة فكر:-
1- إعادة النظر في مجانية التعليم بعد مرحلة التعليم الأساسي.
2- حظر الدروس الخصوصية بقانون يجرمها ويشدد عقوبتها,حالة كونها ورما سرطانيا متشعبا في جسم العملية التربوية التعليمية,مع النص علي التصريح بها في حالات فردية ولضرورة قصوي,ويكون ذلك بترخيص مؤقت من نقابة المعلمين بعد موافقة الإدارة التعليمية.
3- مع إضافة العشرين مليار جنيه التي يدفعها الآباء سنويا للمعلمين مقابل الدروس الخصوصية,إلي موازنة التعليم,علي صورة مصروفات مدرسية,مقابل تعليم جيد في المدارس لا تعليم سيئ في البيوت.
4- المبادرة بإنشاء وتجهيز مجمعات للتعليم المتميز من الابتدائي إلي الثانوي,بقروض ميسرة من البنوك,يلتحق بها من يرغب من أبناء الأغنياء والموسرين والقادرين,بمصروفات مدرسية 4000جنيه لمرحلة التعليم الابتدائي و4000جنيه لمرحلة التعليم الإعدادي,و5000جنيه لمرحلة التعليم الثانوي,وتسدد مصروفات كل مرحلة منها دفعة واحدة في بداية المرحلة التعليمية,ومن حصيلة هذه المصروفات المدرسية تنشأ مجمعات تعليم متميز أخري وتسدد قروض البنوك,وغني عن البيان أن جملة المصروفات الدراسية سالفة البيان,تعادل المصروفات المدرسية عن عام دراسي واحد بكثرة من مدارس اللغات الخاصة.
5- مساهمة مدارس اللغات الخاصة بنسبة 5% من جملة متحصلاتها من المصروفات المدرسية التي تخترق حاجز الصوت,وتوريد قيمة هذه النسبة لصالح تطوير وتحديث التعليم.
6- فرض ضريبة بقانون علي المؤسسات والهيئات المستفيدة بعوائد التعليم كالبنوك والشركات التجارية والمصانع وبيوت الخبرة…,تورد لصالح تطوير التعليم.
7- تعريف أثرياء مصر الجدد بالقيمة الاجتماعية للمال,وحثهم علي إنشاء وتجهيز المدارس علي نفقتهم الخاصة,أو التبرع بالمال لدعم التعليم علي طريقة أثرياء مصر القدامي الذين أسهموا بأموالهم الثابتة والمنقولة في إنشاء الجامعة المصرية (القاهرة حاليا),وأقاموا المستشفيات وتبرعوا بها للدولة.
* ودون ذلك سنظل نلف وندور حول أنفسها,وتنعقد اللجان والمؤتمرات,ولا بذرة أمل في تطوير التعليم ليس لأن الذي نريده مستحيل,لكن لأننا اعتدنا علي حل مشاكلنا إما بتجاهلها أو بالتصريحات الوردية منعدمة الأثر,وإلهاء الجماهير وشغلهم ببرامج كرة القدم من دوري وكأس لتصبح عقول المصريين في أقدام اللاعبين.وتتضخم المشاكل,وتتصاعد الشكوي علي طريقة الفلاح الفصيح ”خون أنوب” في مصر القديمة,ويحق فينا قول الإمام مالك بن دينار ”ويحكم كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟!”.
*عضو الجمعية الفلسفية