خدمة الملائكة وخدمة رجال الدين:
لم يشأ المسيح حينما صنع معجزة خمس خبزات أن يعطي الجماهير بنفسه وكان يمكنه ذلك. كان يمكن للمسيح – له المجد – أن يقول: هاتوا خمس خبزات وأنا أوزعها عليهم طعاما. لم يقل المسيح هكذا بل قال لتلاميذه ورسلهأعطوهم أنتم ليأكلوا قال للآباء الرسل أعطوهم أنتم ليأكلوا. لست أنا الذي أعطيهم, أنتم أعطوهم ليأكلوا. وفي هذا شرف التلاميذ بهذه الكرامة إذ جعلهم واسطة لتبليغ خيراته وبركاته وتوزيع مواهبه, لم يترك المسيح – له المجد – تلاميذه بدون عمل, ولا جعل الناس يأتون إليه رأسا وإنما أعطي التلاميذ, والتلاميذ هم الذين أعطوا الجمع. فلماذا صنع المسيح هذا؟ لأن الله ليس إله تشويش بل إله نظام وإله سلام, وكما رتب في السماء درجات رتب أيضا علي الأرض درجات, وأقام رتبا ووضع طقوسا ونظاما حتي لا يدعي الإنسان أنه قد بلغ من التقوي بحيث يكون بغير حاجة إلي رجال الكهنوت.
هذا الترتيب يشاء الرب أن يكون مرعيا, ولا يسمح لأحد أن يتعداه أو يتخطاه. بل الرب نفسه قد احترم هذا الترتيب الذي وضعه هو, ولم يشأ أن يهدمه أو ينقضه بعد صعوده إلي السماء, حتي إنه عندما ظهر لشاول الذي هو بولس ووبخه علي اضطهاده للمسيحيين, فقال شاول للرب وهو مرتعد:يارب ماذا تريد أن أفعل؟ قال له الربقم وادخل إلي المدينة(دمشق) فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل ثم تجلي الرب لحنانيا الرسول في رؤيا وأمره أن يذهب إلي شاول وأن يعمده وأن يضع يديه عليه ليحل الروح القدس عليه. والآن لو كان المسيح أجاب شاول – أي بولس عن سؤاله مباشرة أو لو كان أقامه رسولا من غير الكنيسة, لكان المسيح قد نقض بذلك تعليما هو الذي علم به من قبل, ولكان المسيح هدم بذلك نظاما هو الذي رسمه, لأنه هو الذي أقام عنه وكلاء وهو الذي منح لهؤلاء الوكلاء سلطانا, فالمسيح أول من يحترم هذا النظام, ولذلك لم يشأ أن يجعل صلته مباشرة بشاول حتي لا يظن شاول الذي هو بولس أنه يمكن أن يكون رسولا من غير الكنيسة, ومن غير أن يقبل العماد من الرجال المعتمدين في الكنيسة بأمر المسيح.
هذا من جهة ومن جهة أخري فإن القديس بولس لم يصبح رسولا علي الرغم من دعوة المسيح له, وعلي الرغم من دعوة الروح القدس فيما بعد عندما قالافرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه إلا بعد أن وضع الآباء الرسل أيديهم علي رأسه وأعطوه وبرنابا يمين الشركة, قال سفر الأعمالوبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليه الأيادي ثم اطلقوهما(أع13:2, 3), نعم فهذا حق, لأنه كيف يمكن أن يصير الإنسان مرسلا مالم يرسل من الكنيسة؟ هذا نظام وضعه الله علي الأرض كما وضع في السماء درجات, وإذن لقد وضع الله في السماء ملائكة وكلفهم بأعمال ووكل إليهم هذه الأعمال, فلا يظن الإنسان أنه قد بلغ من التقوي بحيث أنه ينقض نظام الله, أو يظن في نفسه أنه بغير حاجة إلي خدمة الملائكة. إن الله لم يكلم العذراء مباشرة مع إنها صارت له سماء ثانية وعرشا كاروبيميا, ووالدة, وإنما أرسل إليها الملاك. ولم يكلم زكريا مباشرة وإنما أرسل إليه ملاكا. ولم يكلم إبراهيم مباشرة وإنما أرسل إليه ثلاثة ملائكة في شكل ثلاثة رجال, ولذلك قال الرسوللا تنسوا إضافة الغرباء لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لايدرون.
الملائكة تنفذ أوامر الله:
في سفر المزامير الذي سمعناه في هذا الصباح وهو السابق علي فصل الإنجيل مباشرة يقول: باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة, الصانعين إرادته عند سماع صوت كلامه باركوا الرب يا جميع جنوده خدامه العاملين مرضاته(مز103:20, 21), وفي هذا ينسب المزمور إلي الملائكة إنهم مقتدرون بالقوة, أنهم أقوياء, وهذا حق, فإن ملاكا واحدا قتل في ليلة واحدة مائة وخمسة وثمانين ألف رجل من جيش سنحاريب ملك أشور(2.مل 19:35), وملاك واحد قتل في ليلة واحدة وفي ساعة واحدة أي في نصف الليل, كل بكر في أرض مصر, من بكر فرعون الجالس علي عرشه إلي بكر الأمير الذي في السجن وكل بكر بهيمة(خر12:29), أليس هذا دليلا علي قدرة الملاك وعلي استطاعته وعلي إمكانياته التي يمكن بها أن يصنع ما يريد وما يكلفه الله به؟!. لكن لا نظن أن الملائكة لاتستطيع أن تعمل أو تتحرك من دون أن تتلقي من الله أمرا بذلك في كل كبيرة وصغيرة, كلا ليس الأمر كذلك فإن الله أقام ملائكة, والملائكة كائنات حرة ولهم قدرة, ولهم إمكانيات, ولهم أن يتصرفوا في حدود اختصاصاتهم, ولذلك فإن الملاك ليس في حاجة في كل مرة إلي أن يتلقي أمرا مباشرا من الله, مثله في ذلك مثل الشرطي الذي يقف علي باب البيت أو علي رأس الشارع, له أن يستجيب لاستغاثة أي مواطن دون الرجوع مباشرة إلي رئيس الجمهورية وله أن يندفع من تلقاء نفسه للحراسة ومطاردة اللصوص, دون أن ينتظر إشارة من رئيس البلاد, بل إن الشرطي الذي يرفض أن يستجيب لنداء أي مواطن بحجة أنه لم يتلق بعد أمرا مباشرا من رئيس الجمهورية, فإنه لو أبلغ أمره إلي الرئيس لعاقبه وطرده من وظيفته لأنه بتصرفه العقيم أهان الحكومة, وأثبت أنه غبي عديم التصرف لا يصلح لهمته التي أوكلت إليه.
الملائكة تخدم المؤمنين ولنا أن نستغيث بهم:
من هنا نفهم أنه يمكن أن تكون لنا صداقة مباشرة مع الملائكة, وأنه يمكن أن نستغيث بالملائكة ولا يكون في هذه الاستغاثة تجديف علي الله, ولايكون في هذه الاستغاثة إهانة لجلال الله وعظمته أو إنقاص لقدره العظيم, لأن الملائكة مخلوقون لخدمة الله كما أقيموا أيضا لخدمتنا, خذ مثلا آخر: هب أن إنسانا غريقا رأي أحدا يسير علي الشاطئ فاستغاث به أن ينزل إلي الماء لينقذه, وكان هذا الأحد يجيد فن السباحة, أفهل هو في حاجة إلي أن يأخذ من رئيس البلاد أمرا بأن يغيث الغريق أم أنه يندفع بمروءته وينقذ هذا الغريق, مؤمنا أن إنقاذ الغريق أمر نبيل يسر له رئيس البلاد؟هكذا الملاك الخير يمكن أن يستغيث به الإنسان مباشرة, فيندفع الملاك للخدمة دون حاجة إلي أن يأخذ من الله أمرا مباشرا, ولو فعل لكان معني هذا أنه يشك في صلاح الله وخيريته وجوده, ويشك في أن الله يريد الخير, وبهذا يشوه صورة الله في نظر الناس.
إذن يمكن أن نستغيث بالملائكة, وليس في هذا خطأ, وليس فيه إعتداء علي عمل الله لأن الله أقام الملائكة لخدمة البشر, والملائكة يتحركون لخدمتنا إما استجابة لاستغاثتنا بهم أو من تلقاء أنفسهم بناء علي إراداتهم الخيرة في عمل الصالحات والنافعات.
الإستغاثة بالملاك ليس تجديفا:
ولا نظن إننا حين نستغيث بالملاك أن هذا يتعارض مع محبتنا وعبادتنا لله, لأن الملائكة خدام. وقد قال الرسول: أليسوا جميعهم أرواحا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص(عب1:14). إذن لقد منحنا الله هذه العطية, وهي أن يجعل الملائكة الأقوياء في خدمتنا, وكلفهم بحراستنا وإغاثتنا, فلماذا نعود بعد ذلك ونشك في أنه يمكننا أن نستغيث بالملاك مباشرة؟! إني أقول هذا ردا علي البعض الذين يحسبون هذه الاستغاثة تجديفا علي الله, ويقولون كيف تقولون للملاك:يا ملاك أغثني, أو يا ملاك أعني, ولماذا لا تقول:يارب أعني, أقول ليس في هذا أدني خطأ, وليس فيه ما يتعارض مع عبادتنا لله وصلواتنا إليه, ألا يقول الواحد منا للآخر:يا أخي أعني, يا أخي ساعدني, يا أخي أنقذني, فهل تكون بهذا قد جدفت علي الله؟ أي منطق يقول هذا الهراء الذي يغاير الواقع؟! علي العكس, فإنك لو زعمت أنك في غير حاجة إلي إنسان, ولا تحتاج إلي إنسان فإن هذا يكون دليلا علي كبريائك وغطرستك, وانتفاخ قلبك بالادعاء الباطل, وهو يجلب عليك الغضب من الله والناس, لأن الله يقاوم المتكبرين أما المتواضعون فيعطيهم نعمة(يع4:6) ألا تري أنك إن استغثت أو استعنت بصديق عنده موهبة في أي فن من الفنون, أو لديه إمكانية من الإمكانيات أو له قدرة من القدرات, فإن هذا لا يتعارض مع محبتك لله وعبادتك له, لأن الله أعطي البشر مواهب ليستغلوا هذه المواهب في خدمة بعضهم البعض. إذن يمكن أن نستغيث بالملاك ميخائيل, وأن نطلب منه أمرا, ومادام هذا الطلب في حدود اختصاصاته,وفي حدود إمكانياته- وإمكانياته عظيمة, وقدراته أعظم جدا من قدرات ملايين البشر مجتمعين- إذن نحن لانقع في خطأ حينما نطلب شفاعة الملاك ميخائيل, أو حين نطلب منه سؤالا أو عندما نناديه ونقول يا ملاك ميخائيل أنقذني من هذه التجربة أو تلك, أو ساعدني في هذا الموقف أو ذاك, أو اشفع في أمام الرب, ساعدني بصلواتك المقبولة أنت القريب من الله والواقف قدام الله, اذكرني أمام الرب.
وفي ترتيب القداس يقف الكاهن في نهاية القداس, وماء البركة علي يديه, ويخاطب ملاك الذبيحة قائلا: يا ملاك هذه الذبيحة, الصاعد إلي العلو بهذه التسبحة, اذكرنا أمام الرب ليغفر لنا خطايانا.
ميخائيل ملاك الرب والرئيس العظيم:
إننا في هذا اليوم المبارك بل وفي هذا العيد السعيد نذكر هذه المعاني المباركة ونحن نحتفل بفرح وسرور, بتمجيد وتهليل لهذا العظيم بين السمائيين,لهذا العظيم بين الملائكةميخائيل وهو بهذه القوة اللامعة الجبارة المهولة المخوفة, هذا الملاك ميخائيل ملاك القيامة الذي عندما نزل من السماء حدثت زلزلة عظيمة لأن ملاك الرب نزل من السماء, ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه(مت28:2) وكان منظره كالبرق, ولباسه أبيض كالثلج, فمن خوفه ارتعد الحراس, وصاروا كأموات(مت28:3).
هذا هو مجد الملاك العظيم الذي أقامه الرب رئيسا لرؤساء الملائكة الذي نذكره في هذا الصباح المبارك فلنطلب شفاعته وسؤالاته وطلباته.كل منا من القائمين في هذا المكان الطاهر, له طلبه, له سؤال يمكنه أن يطلب هذا الطلب في هذا الصباح باسم رئيس الملائكة ميخائيل وبشفاعته وسؤالاته وطلباته, ولاشك أن الله الذي يكرم أصفياءه بأن يستجيب لصلواتهم من أجلنا, فلنضرع في هذا الصباح وليسأل كل منا سؤالا, ليسأل خلاصا لنفسه من الأعداء الروحانيين, ليطلب غفران خطاياه, ليطلب أن يكون له نصيب مع المقدسين في السماء, وليطلب أن يكون بين أهل اليمين حينما يظهر المسيح في مجده وجميع الملائكة معه, وحينما يخرج الملائكة كما يروي إنجيل هذا الصباح من فم المسيح – له المجد – ويقومون بعمل الحصاد وهم الذين يفرزون الأبرار من بين الأشرار, فيقيمون الأبرار يمين الملك والأشرار علي يساره, فلنجعل الملائكة لنا أصدقاء يذكروننا في المظال الأبدية ويصلون من أجلنا, وليشملنا الرب برضاه ويحفظنا في مهابته ومخافته كل أيام الحياة وليذكر الكنيسة كلها بالخير,وليذكر جميع خدام الكنيسة, ليذكر الشعب, وليذكر بلادنا ورئيسها, وليذكر جميع أبناء الإيمان الأرثوذكسي, والخارجين عن وعلي الإيمان الأرثوذكسي, وليرض عن الكل, ويقبل سؤالات وطلبات قديسيه عنهم بالصلاح كل حين, بشفاعة العذراء مريم ورئيس الملائكة ميخائيل وجميع الطغمات السمائية.
ولإلهنا المجد والكرامة آمين