في يوم ربيعي مشمس, وعلي أحد الطرق السريعة الواسعة التي تربط بين الولايات المختلفة في القارة الأمريكية مترامية الأطراف, انطلقت السيارات في الحارات العشر بشكل متناغم وفي خطوط هندسية متوازية.
علي الجانب الأيمن للطريق لافتة معلقة تتكرر كل عدة أميال تذكر السائقين بأن السرعة المقررة علي هذا الطريق 65 ميلا في الساعة, أي ما يعادل 100 كيلو متر في الساعة. علاوة علي أن.ورغم هذا فإن عشرات السيارات استغلت الجو الصحو وانسيابية الطريق وكسرت حاجز السرعة لما يقترب من عشرة أميال زيادة عن السرعة المقررة, ومع هذا لم يتدخل البوليس المتواجد علي جانبي الطريق لتحرير مخالفات سرعة لهذا العدد الكبير من السيارات المخالفة.
ولكن فجأة انطلقت سيارة بسرعة فائقة تقترب من 140 ميلا في الساعة ,أي ما يزيد علي 220 كيلو مترا في الساعة, وهي تتلوي بين الحارات المختلفة لكي تستطيع مواصلة السير بهذه السرعة الجنونية.استفزت هذه السرعة كل من يسير علي الطريق بل وأربكت السائقين خوفا من الخطر المتطاير من هذه السيارة العجيبة. وبعد أن اتسع الخوف والاستفزاز ليصيب كل من يقود سيارته علي الطريق, تنفس الجميع الصعداء بعد أن وجدوا سيارة شرطة تسير بسرعة مذهلة خلف هذه السيارة, وتطلق سرينتها للسيارات الأخري لكي تفسح لها الطريق حتي تستطيع اللحاق بهذه السيارة وسائقها المتهور.وأخيرا لحقت سيارة الشرطة بهذه السيارة وأجبرتها علي الوقوف علي جانب الطريق الأيمن. تخيل معي السؤال الغبي الذي يمكن أن يوجهه هذا السائق المتهور لرجل الشرطة؟. أن يقول إن هناك العديد من السيارات تتجاوز سرعتها 65 ميلا فلماذا توقفني أنا بالذات؟, والسؤال الأغبي أن يقول أنت أوقفتني لأني رجل أسود أو مسلم أو عربي, ألا يعد هذا تمييز ضدي؟. ولكن ماذا لو تمادي هذا السائق ووجه سبابا لرجل الشرطة وقال له أنت وكل الشرطة الأمريكية والمحاكم الأمريكية التي سوف تحاكمني علي مخالفة السرعة المقررة بل وكل الحكومة الأمريكية والشعب الأمريكي تحت جزمتي!!. . ماذا لو تمادي أكثر هذا السائق وهدد الشرطي قائلا إن لم تتركني أسير في طريقي سوف أفجر الطريق برمته.
حكاية هذا السائق المجنون هي حكاية عمر البشير في السودان.البشير لم يرتكب جرائم وحسب مثل كثير من قادة العالم , ولكن استفزت وحشية جرائمه وكثرتها العالم كله والضمير الإنساني برمته. يقول فرانكلين جراهام رئيس منظمة ساماريتنز بورث في صحيفة الهيرالد تريبيون الدولية الصادرة يوم 3 مارس ##أنا ناشط في أعمال الإغاثة في السودان منذ 16 عاما. وكنت شاهدا علي أعمال عنف ارتكبتها حكومة السودان. وقتل نحو 300 ألف شخص من دارفور, ونزح وتشريد اثنين ونصف مليون نسمة عن قراهم ##. ويقول المناضل الجنوب أفريقي ديزموند توتو ,الحائز علي جائزة نوبل للسلام عام 1984, في الهيرالد تريبيون بتاريخ 3 مارس ## لقد حول البشير إقليم دارفور إلي مقبرة جماعية كبيرة##.الأمم المتحدة, التي تمثل السائرين علي الطريق في هذه القصة, الكثير من أعضائها يخالفون القانون الدولي, ولكن الأمم المتحدة معبرة عن أعضائها تري أن مأساة دارفور هي أسوأ أزمة إنسانية في العالم حاليا. الأمم المتحدة قالت إن البشير قتل أو ساهم في قتل أو سهل مهمة قتل حوالي 300 ألف شخص في دارفور علاوة علي تشريد حولي اثنين ونصف مليون آخرين.
السؤال الغبي الموجه للشرطي لماذا أنا بالذات دون السائرين علي الطريق؟ هو نفس السؤال الذي تلوكه الميديا العربية والكثير من المثقفين العرب عن المعايير المزدوجة للعدالة, وانتقائية المحكمة , والكيل بمكيالين, وعورات القضاء الدولي , والعدالة العرجاء , والقضاء الدولي المسيس ,ولماذا لا تحاكم إسرائيل وأمريكا, هذا الكلام للأسف لا يخرج من حاشية البشير وزمرته فقط ولكن ردده الكثير من الشخصيات السياسية وأساتذة للعلوم السياسية وبعض كبار القانونيين بل ونشطاء حقوق إنسان عرب في معظم وسائل الاعلام العربية.
الذين لا يدركون الفرق بين جرائم البشير وغيره مصابون بالعمي , ويهينون عائلات الضحايا, ويحتقرون إنسانية الإنسان.
أثبت كثير من المثقفين العرب أنهم وبحق يستحقون جلاديهم, بل هم يساهمون بفاعلية في صناعة هؤلاء الجلادين. الذين يساعدون المجرمين المتوحشين علي الإفلات من العقاب وتحدي الضمير الإنساني والعدالة الوطنية والدولية, هم الذين ساعدوا في صناعة ثقافة الموت والقتل والدماء في بلدانهم, وهم الذين ساهموا في جعل المنطقة العربية محل احتقار العالم كله.
إن الاستهزاء بالقانون لصالح العنف والقوة المجردة هو تدمير لأهم أساس قامت عليه الدولة الحديثة, وتدمير للنظام العام وإشاعة للفوضي, فعندما تعم الفوضي في مجتمع ما يقاس نفوذ الفرد بمدي خروجه علي القانون.
البلطجة فهو ما قاله البشير في دارفور يوم 8 مارس حيث تطاول علي الجميع بقوله ##المحكمة الجنائية الدولية وقضاتها ومدعيها ومن يدعمها تحت جزمتي##.
أما الإرهاب فهو ما تكرره الحكومة السودانية والعديد من المثقفين مهددة العالم بأن محاكمة البشير تهدد السلام في السودان وفي المنطقة وتقوض جهود المصالحة وتحول السودان إلي صومال آخر.المفاضلة بين السلام والعدالة هو منطق معوج , فلا سلام بدون عدالة وكما يقول توتو ## السلام هو رهن العدالة وتخليص حق الضحية من المعتدي##. كيف يستقيم وجود سلام في ظل تفشي الظلم؟ .الخيار بين السلام والعدالة يعني تدمير الاثنين بل وتدمير الدولة ذاتها, فالعدل أساس الملك. وإذا كنتم تطنطنون بذم العدالة الدولية فلماذا لم تحققوا هذه العدالة علي مستوي بلدانكم؟ إن الضمانات التي توفرها العدالة الدولية غير متوفرة في أي نظام عربي.إن العدالة الدولية, حتي ولو أدعيتم أنها مسيسة, هي أفضل من كل أنظمة العدالة لديكم من حيث احترام القانون وعدالته ,ومن حيث كفاءة القضاة وحيادهم ونزاهتهم وتنوع انتماءتهم الجغرافية, ومن حيث الشفافية والوضوح, ومن حيث ضمانات التقاضي, ومن حيث حق الاستئناف, فلا مقارنة بين العدالة الدولية التي يقدحونها وأنظمة القضاء في كافة الدول العربية.
الذين يتحدثون عن خطورة محاكمة البشير علي السلام في السودان هم يتضامنون معه في تهديد العالم بالإرهاب وفي تهديد السودانيين الآمنيين بمزيد من الجرائم.
[email protected]