في كل مرة يعبر فيها مواطن معارض عن رأيه, ويمارس فيها حريته كاتبا أو متكلما وفي ظل حالة إعلان قانون طوارئ قرابة خمسة وأربعين عاما متواصلة, يواجه هذا المواطن الآبق من قبل الجهات الرسمية بتهم أقلها توهين نفسية الأمة وإضعاف عزمها وأكثرها التخوين والارتباط والعمالة للأجنبي, وما بين الأكثر والأقل من التهم يبرر النظام الأمني لنفسه ضرب المعارضة تحت الحزام بالاعتقالات الواسعة والمستمرة والزج بها في سجونه تأكيدا أن معارضه فساده ثابت, وتآمره مثبت وخيانته أثبت وإن كان من الصالحين, وعدته في ذلك مجهزة من أجهزة أمن تعتقل, ومدعي عام الأرجنتيني يتهم, وقاضي يحكم وإعلام يؤكد سلامة الإجراءات, ومثقفون وقادة أحزاب وثوريون إسلاميون وعلمانيون وليبراليون ومشايخ يباركون مايجري دعما للمقاومة والممانعة ولمنازلة أعداء الله والأمة وانتصارا للوطن.
نقول هذا الكلام وقد صدر منذ يومين حكم محكمة الجنايات في دمشق علي السجين للمرة السادسة حبيب صالح بالسجن لمدة ثلاث سنوات بتهمتي نشر أنباء كاذبة في زمن الحرب تضعف الشعور القومي وتوقظ النعرات العنصرية والمذهبية, وهما تهمتان معادتان ومكرورتان عليه.
ورغم أن فعلة هذا المعارض حقيقة لم تكن أكثر من بعض مقالات كتبها مواطن مسكون بحب وطن يتآكل ويحترق بفعل قوي الاستبداد والفساد وحيتان التشبيح والنهب في إطار إيمانه بحرية التعبير عن رأيه وقناعته حبا وإخلاصا لوطن يزوي, وأكد ذلك إفادات عدد من المنظمات السورية لحقوق الإنسان في سورية علي أن ما قاله حبيبنا وماكتبه, يندرج في إطار ماكفله الدستور السوري لمواطنه, وأكدت عليه المواثيق والاتفاقيات الدولية التي كانت سورية طرفا فيها, فإن الحكم الذي صدر يؤكد أن الجهات القابضة والممسكة بكل مرافق الدولة ومفاصلها قرابة أربعين عاما, مابين والد وما ولد, مازالت تؤكد في ممارستها أنها في ريب من سلامة بنائها الذي بنت, وشك من أنه مازال ضعيفا فاقدا للمناعة, فهو رغم عقوده الأربعة لايحتمل ولايتحمل لمسة أو إشارة, ولا حتي كلمة من نقد أو تصويب خشية انفراط الأمة وذهاب هيبتها. كما يؤكد أن الجهات الرسمية رغم مذهبها الخاص والعياذ بالله في تفسير مايقوله أي كاتب معارض علي طريقتها الأمنية حيث يحسبون كل ممارسة لحرية من رأي أو فكر أو نصيحة صيحة عليهم, ومن ثم فهي تكسير وتوهين وإضعاف لنفسية أمة صامدة ومقاومة وممانعة تجسدت في نظام مستبد, لكنها في الوقت نفسه تتعامي عن عمليات القمع والتعذيب وتصفية المعارضين, ولصوصية النهابين والقراصنة من الهوامير والحيتان, وكأن ليس فيها شيئا مذكورا من توهين وإضعاف للوطن والأمة, بل هي طعام وشراب ولقاحات تقوي جسدها وتشد عزمها.
ومايثير الاستغراب حقيقة أن كل هالمكسرين والموهنين والمضعفين والمروجين والمرتبطين سبحان ربي لانسمع عنهم ولانجدهم ولايجتمعون إلا في بلاد القمع والاستبداد والفساد, وأن التهم التي توجه إليهم من أوكامبو السوري تكاد تتطابق نصوصها إلا من تغيير ببعض الكلمات بين معتقل وآخر, وكأن ملف السيد المدعي العام جاهز, والتهمة معروفة ومحضرة, تنتظر وصول المتهم والمعارض الآبق.
العجيب في نبأ المدعين (بتوعنا) أن لا أحد ينبس بكلمة عن إدعاءاتهم وممارساتهم من كتاب المقاومة والممانعة ومثقفي السلطة ومشايخها عاملين ومتطوعين, مما يجعلنا نتساءل لماذا لا نسعي جاهدين, ونعمل ليكون أمثال هكذا مدعين عاميين في المحكمة الجنائية الدولية, فنأخذ الطريق من قصيرها , ونجنب العالم الدربكة الأخيرة التي سببها مدع أرجنتيني, لايخافنا ولايستحي علي وجهه منا. فإلي متي تصر الأمم المتحدة ومجلس أمنها العتيد علي المضي عكس السير.
ربما يقال الكثير عن سبب الهيصة التي أحدثها طلب أوكامبو وقرار محكمته, ولكن مما لاشك فيه بأنه لو كان عربيا ومن البلدان إياها, لسكتنا عليه ومشيناها له دون صخب أو ضوضاء, ولكن ألا يكون من بني قومنا, ثم يطلب اعتقال واحد منا ومن زعمائنا أيضا, فهو مؤشر ما علي انعدام النخوة والمروءة. إلا لا نامت أعين الجبناء.
قد يكون في طلب لويس أوكامبو بن مورينو الأرجنتيني والمحكمة الجنائية الدولية فيه مافيه من غير شك أو ريبة والعياذ بالله, ولن نجادل أحدا من المناضلين ولن نناظر أحدا من المجاهدين, لأننا نتفهم حججهم وغضبهم وثورتهم, ولكن ماذا عن المحكمة الدولية لو فاجأتنا وأخذتنا علي حين غرة, وجاءت لنا بمدع عام ومحكمة من (إللي بالي وبالكم), ممن يعتبرون مقالة كاتب أو حديث معارض إضعاف لبلد ينهب ويسرق عيني عينك, وتداس فيه حقوق المواطن, وتفتقد فيه العدالة, والقضاء عيني عليه باردة.
مفارقات بعضها مفهوم وأكثرها متفهم وبعضها غير ذلك, قامت فيها قيامتنا علي المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها الأرجنتيني وقد تحركت بأرقام مرعبة من جرائم القتل والإبادة, ونترك فيها محاكمنا التي ترجفها مقالة وتخيفها رسالة, كتبها أو نشرها معارض حرفوش فيعتقل ويسجن ويقهر, ويذل وتمسح به الأرض ويكون من الصاغرين, وتفرض عليه أقصي العقوبات ليكون لمن بعده آية ولغيره عظة وعبرة للمعتبرين.
قال الشيخ الترابي ماقال, ودخل السجن بما قال, واقترح مااقترح, وخرج من السجن وهو يؤكد ماقال. فقالوا: أما آن لهذا الهرم أن يخرس وقد سجن دهرا ونطق كفرا…!!
وقال الصادق المهدي بمثل ماقال صهره, فقالوا: خصومة سياسة وعداوة كار, وعين علي السلطة.
وقال نائب الرئيس البشير بمثل ماقال الأوليان, فقالوا: يريد أن يكون رئيسا من بعد البشير, وهيهات هيهات.
وقال من قال بالتآمر والمؤامرة, وحدث من حدث عن مطامع الطامعين وضغائن الأعداء الحاقدين, وأخبر من أخبر عن تآمر المنظمات الدولية الإغاثية والأممية والصهيونية, وأبعاد النهب للثروات والتقسيم, ونحن نتفهم كل ذلك ونعي أبعاده, وإنما لم نسمع أحدا يطمئننا ويصحح في أرقام الموت والتهجير ويبرد قلوبنا عن صحة ماقيل من عدمه شهادة ليوم الدين في الاتهام بأن عشرات الآلاف من (زول وزولة) لاقوا مصرعهم فيما تم تهجير مئات الآلاف من ديارهم حذر الموت, أويخبرنا مسئول عن محاكم محلية أو عربية أو إسلامية أو مشتركة قامت بمسئولياتها قصاصا وعدلا ومحاسبة, أو يفيدنا عن السبب في تأخير طرد المنظمات الإغاثية التي كان مطلعا علي تجسسها وصهيونيتها منذ عهد بعيد أو التأخير في أن يسد مسدها ويستغني عنها ويساعد أهله ومواطنيه.
قد يستطيع كل الناس أو بعضهم الكلام عن المحكمة الجنائية الدولية لسبب أو آخر إلا السوريين وأنا منهم, فما عندهم كاف وواف ليتكلموا عنه فهو أنفع لهم وأحسن, وما الحكم الصادر علي السيد حبيب صالح عنهم ببعيد.
* كاتب سوري
نقلا عن شفاف الشرق الأوسط