في الوقت الذي أصدر فيه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرته لقضاة المحكمة بشأن توقيف عمر حسن البشير في 14 يوليو الماضي كان البشير يرقص علي جثث الضحايا في دارفور, وقبل إصدار المحكمة لقرارها التاريخي يوم 4 مارس بساعات كان البشير يلوح بعصاه في الهواء قائلا علي القرار المتوقع## يبلوه ويشربوا ميته##.
جاء القرار كحدث تاريخي مبهج في مسار العدالة الدولية,ورغم ما يقوله البشير فالحقيقة أن العد التنازلي لنهاية نظامه قد بدأ,وحول تداعيات هذا القرار هناك عدد من الملاحظات:
* عقب صدور القرار صرح وزير العدل السوداني بأن البشير لم تنتخبه المحكمة الجنائية أو مجلس الأمن حتي تحاسبه, والحقيقة أن البشير لم ينتخبه الشعب السوداني أيضا, ولا يستند إلي شرعية داخلية وجاء إلي الحكم عبر الانقلاب علي حكومة شرعية منتخبة هي حكومة الصادق المهدي في يونيه عام 1989, ومن حسن حظه أن النظام الدولي لا يحاسب الرؤساء علي كيفية وصولهم للسلطة في بلادهم, والمفروض أن هذه هي مهمة الشعوب, والنظام الدولي يحاسب فقط علي الالتزامات المتعلقة بالقانون الدولي, وجاء قرار المحكمة ليسقط الشرعية الدولية عن نظام البشير, ومن ثم فإن البشير لا يملك حاليا لا شرعية محلية ولا شرعية دولية, وإنما يتخذ شعبه بأكمله رهينة في مقابل احتفاظه بالسلطة وإفلاته من العقاب.
* في كل مرة تقترب العدالة من أحد الطغاة نسمع تحذيرات وتهديدات زملائه من الفاشيين بأن ما يحدث يقوض السلام ويهدد الاستقرار, ولا نعرف عن أي سلام يتحدثون؟ لقد حول البشير السودان إلي بلد للأشباح, فإنه قبل أسبوعين فقط قصفت طائرات البشير قطاع دارفور فقتلت الأطفال وهجرت الآلاف, وهناك 5 ملايين شخص يموتون ببطء في معسكرات اللجوء بدارفور,وأدي القصف الحكومي لدارفور إلي تشريد 90 ألف من المدنيين في أكتوبر 2008 وحده, والجيش السوداني مستمر في قصف قري شمال وغرب دارفور, وتعرض 170 عاملا بالمساعدات الإنسانية للخطف ولقي 11 غيرهم حتفهم وهم يمارسون مهامهم لإنقاذ الضحايا في الشهور الماضية.
إن أزمة دارفور هي أسوأ ازمة إنسانية في العالم حاليا كما تقول الأمم المتحدة, لقد قتلت قوات البشير 300 ألف شخص وشردت حوالي 2.5 مليون آخرين, ودك سلاح الجو السوداني مئات القري, وارتكبت قوات البشير الفظائع من قتل واغتصاب وتجويع ونهب وسلب , ومن قبل و تحت حكم البشير وعلي مدي 18 عاما في جنوب السودان تم حرق عشرات القري ليسقط أكثر من 3 ملايين ضحية.
كان تدخل المجتمع الدولي حاسما ومفيدا في توفير الحماية للأكراد وللعراقيين في الجنوب, وتدخل مجلس الأمن مهم في وقف كذب وخداع البشير, وحان الوقت بالفعل لمجلس الأمن بأن يفرض حظر طيران لقوات البشير فوق دارفور وفوق جنوب السودان تمهيدا,لاستفتاء 1911 في الجنوب, ولا سيما لو شمل هذا الاستفتاء منطقة دارفور أيضا لكي تأخذ فرصتها في تقرير مصيرها.
*في كل الأزمات يثبت النظام الرسمي العربي بأنه لا إنساني, فلم نسمع لهذا النظام حتي ولو مجرد احتجاج علي القتل والاغتصاب والإبادة الجماعية التي حدثت في دارفور وفي جنوب السودان, ولا عن مجازر صدام, ولكن في كل مرة يبذل النظام الرسمي قصاري جهده لحماية الطاغية. هل سمعتم عن كلمة نقد واحدة وجهت للبشير او لصدام من قبله؟ هل سمعتم عن تقرير صادر عن جامعة الدول العربية يدين هذه الجرائم غير الإنسانية؟ هل سمعتم عن بعثة تقصي حقائق زارت هذه الدول للاستماع إلي أنين الضحايا والمشردين؟ هل سمعتم عن عمل إنساني قام به النظام الرسمي العربي لصالح ضحايا الطغاة؟ هل سمعتم عن جهد إنساني قامت به جامعة الدول العربية لصالح ملايين المشردين في دارفور؟ هل سمعتم عن مؤتمر لإعمار دارفور كما حدث في غزة؟ هل سمعتم عن منظمات إسلامية تعمل بجانب المنظمات الغربية في إنقاذ البائسين والمشردين في دارفور؟ هل سمعتم عن صراخ في الفضائيات من أجل ضحايا دارفور؟.فقط يبذلون كل جهدهم عندما تقترب العدالة من الطغاة العرب,إنه باختصار نظام يعادي الإنسان وثقافة تعادي الإنسان, ويقف خصما ضد العدالة,ويحمي الطغاة,ويتصرف بعنصرية تجاه الأفارقة .
أما المستبدون الأفارقة الذين ساندوا البشير فقد وصف سلوكهم المخزي في النيويورك تايمز,المناضل الجنوب أفريقي الحائز علي جائزة نوبل للسلام, ديزموند توتو ##بأنه مخجل##, ووصف مذكرة اعتقال البشير## بأنها لحظة فوق العادة لأهل السودان ومناسبة تاريخية##, وقال توتو ##علي القادة الأفارقة مساندة اعتقال البشير لارتكابه جرائم حرب##.
*أطلقت زمرة البشير جملة تهديدات للسودانيين لإرهابهم وتخويفهم من التعامل مع العدالة الدولية , فالطاغية علي استعداد للتضحية بآخر فرد من شعبه في سبيل بقائه في السلطة, حيث هدد رئيس المخابرات السودانية صلاح غوش بـ ## قطع يد كل من يحاول المشاركة في تنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية##, وقال المتحدث باسم الجيش السوداني ## القوات المسلحة ستتعامل بالحسم مع كل من يتعامل مع المحكمة الجنائية الدولية##, وأقسم وزير العدل علي الملأ بأن## الحكومة لن تتعامل مع المحكمة##.
*جاء القرار ليظهر فشلا جديد لحكم الإسلاميين,فالبشير الذي أطلق علي إنقلابه ثورة الإنقاذ الإسلامية لحق بحكم الجماعات الإسلامية الفاشية والفاشلة في أفغانستان ونيجيريا وباكستان وغزة والصومال…إلخ, فهذه الجماعات لم تحول بلدانها إلي بؤر ظلامية فحسب ولكنها تركتها خرابات ينعق فيها البوم والغربان, إن إنجازاتها الوحيدة هي الحروب والدمار والخراب والقتل والترويع.
من حظ البشير أن المحكمة لا تقر عقوبة الإعدام, ومن حظه إنه لم يقع في أيدي شعبه كما حدث لصدام, فالبشير يستحق أقصي عقوبة علي ما اقترفته يداه بحق شعبه, ولا عجب كذلك أن يؤيد البشير صدام في غزوه للكويت وحماس في سطوها علي غزة, ويحتضن بن لادن لسنوات في السودان, وتنطلق محاولة اغتيال الرئيس مبارك من أرضه.
قرار المحكة يوم تاريخي للعدالة الدولية,ونأمل أن يكون بداية لسودان جديد أو لظهور عدة دول تنطلق من رحم الأزمة.
[email protected]