لا يمكن للعلمانية أن تتأسس دون الإصلاح الديني الذي لم يتحقق بعد عندنا, بل تحقق في أوربا القرن السادس عشر
سيقول لنا فلاسفة الفكر الإسلامي إن أوربا احتاجت الإصلاح الديني بسبب ##الكنيسة##, المرض الذي لا وجود له في حضارتنا. وهنا بالضبط يكمن الخطأ, فلدينا كنائس لا كنيسة واحدة, إذا كان معني الكنيسة وجود سلطة, أو سلطات, تحتكر المعني الديني, وتكفر كل من يخالف هذا المعني. لدينا وفرة وافرة من هذه السلطات, التي تحتكر, إلي جانب المعني الديني, المعني الاجتماعي والمعني الثقافي والمعني السياسي, بالإضافة إلي المعاني الأخلاقية والروحية, وكلها معان يتم احتواؤها داخل المعني الديني, الذي تنتجه هذه السلطات.
مشكلة الخطاب الديني أنه يلعب علي أوتار ##الخصوصية##, وكأننا بدع بين البشر, ما أصلح العالم لا يصلح لنا, دون أن يدقق المخدوعون بمفهوم ##الخصوصية##- المطروح في الخطاب الديني – ليدركوا أنها خصوصية فقيرة جدا ومغلقة; لأنها تختصر هوية الإنسان في بعد واحد من الأبعاد العديدة, وهو بعد ##الدين##.
* أسلمة الدولة
ليست المشكلة أن هناك جماعات تحتكر الإسلام, وتنسب نفسها -وحدها- إليه. هذه أحد تجليات المشكلة وليست كل تجلياتها. لو كان الأمر مجرد انضمام لجماعة, تزعم أنها ##إسلامية## علي سبيل الاحتكار لهان الأمر, خاصة إذا كان المجتمع, خارج الجماعة, واعيا بأنها مجرد جماعة. بداية المشكلة كانت في مصر 1928, حيث نشأت ##جماعة الإخوان المسلمين##, وجدت ##جماعة أنصار السنة المحمدية##, وجماعات وتجمعات كثيرة لها أسماء أخري, ولم تكن الدولة تتبني زعم أي واحدة من هذه الجماعات. كانت هذه إرهاصات ##المجتمع المدني## في مصر شبه الليبرالية, حيث تحمي الدولة حق الناس في التجمع وتنظيم تجمعاتهم في شكل قانوني, سواء في شكل ناد, أو نقابة, أو حزب, أو جمعية خيرية, أو دينية: إسلامية أو مسيحية أو يهودية.
الكارثة الآن أن الدولة, بنظامها السياسي الديكتاتوري القمعي, تتبني نفس النهج; فتزعم أنها دولة إسلامية, وتحرص في صياغة قوانينها علي الحصول علي موافقة المؤسسة الدينية. بل وتتبني في نظامها الاقتصادي مفاهيم ##الاقتصاد الإسلامي##, الذي يحتل ركنا خاصا داخل كل البنوك. وصار هناك الزي الإسلامي, والشعار الإسلامي, والبرامج الإسلامية, في الإذاعة والتليفزيون, وصار بعض الناس يحملون لقب ##المفكر الإسلامي##. الخطر هنا في هذه الأسلمة, التي لا هدف وراؤها سوي سحب بساط احتكار الإسلام من تحت أقدام المعارضة. يمكن القول باختصار أن النظام السياسي يسجن نفسه في خندق المعارضة الإسلامية, وهو يظن أنه يحاربها. لقد انتصرت بأسلمة المجتمع والدولة, دون الوصول إلي السلطة. وهذا يفسر حالة التراوح في تقديم برنامج سياسي لخوض الانتخابات من جانب المعارضات الإسلامية. إن شعار ##الإسلام هو الحل## كاف ما دام النظام السياسي يحول الشعار إلي سياسة.
المعضلة, في هذا الوضع, ليست فقط معضلة المسلم الذي لا يريد أن ينتمي لهذه الأسلمة الإكراهية, بل المعضلة الأكثر تعقيدا معضلة غير المسلم الذي يعيش بالإكراه والإرهاب بقوة القانون المتأسلم في مجتمع, لا يأبه به, ولا يعير دينه أي قيمة, إلا بطرف اللسان والبلاغة اللفظية. وضع المرأة أنكي وأنكي, ووضع الفكر والمفكرين, والإبداع والمبدعين لا يحتاج لمزيد من الإيضاح.
* مقدمات الثورة العلمية
إنها ##العلمانية## – التي تفصل بين الدولة ونظامها السياسي وبين الدين – هي وحدها التي يمكن أن تفتح آفاقا للحرية والعقلانية وتعدد المعاني. الدين شأن المتدينين, ومهمة الدولة أن تضمن حرية الجميع, وتحمي البعض من البغي علي البعض باسم الدين أو باسم هذا المعني أو ذاك لدين بعينه. لكن العلمانية لا يمكن أن تتأسس دون الإصلاح الديني, إصلاح لم يتحقق بعد عندنا, بل تحقق في أوربا القرن السادس عشر. لم تحدث عندنا ثورة فلسفية كالتي أحدثها فلاسفة أوربا, تلك الثورة التي علي أساسها تحققت الثورة الاجتماعية والسياسية التي أرست مفهوم ##المواطن##, وأحلته محل مفهوم ##الرعية##, المفهوم الحاكم في مجتمعاتنا, رغم بلاغة الدساتير في تأكيد ##المواطنة##. بعد تحرر الإنسان من نير الطغيان السياسي, ونير التصور الكنسي للعالم, بفضل كل ما سبق – الإصلاح الديني وثورة الفكر الفلسفي والعلمانية – تحققت الثورة العلمية.
كل شيء ولد في مجتمعاتنا مختنقا, بسبب أن ##الحداثة## الوافدة تم تمزيقها أشلاء في الوعي التحديثي -ولا أقول الحداثي- فتم تقبل الشلو التقني فقط, وتم رفض الأساس العلمي للتقنية, بكل مكوناته من عقلانية وعلمانية الخ. تم تقبل الديموقراطية, بدون أساسها وهو حرية الفرد, تم تقبل الاقتصاد الحر, بدون أساسه من حرية الفكر. لم يحدث الفصل بين السلطات, ولا كان ممكنا أن يحدث, لارتباط مفهوم السلطة بمفاهيم قروسطية مثل ##الراعي## و##الحامي## و##الزعيم الملهم## و##الرئيس المؤمن## و##أمير المؤمنين##.
هناك الآن أهمية قصوي لفصل الدين عن الدولة, إذا نظرت حولك ستجد النتائج المأساوية لهذا الزواج الكاثوليكي المحرم بين الدولة والدين في عالمنا العربي. الدين لا تستخدمه الجماعات الراديكالية أو الإسلاميون فقط, إنما تستخدمه الدولة, وهذا أمر يعود تاريخه إلي النصف الثاني من القرن العشرين, في العالم العربي كله والعالم الإسلامي كله.
* عن الدولة لا المجتمع
فصل الدين عن الدولة غير فصل الدين عن المجتمع, لا يستطيع أحد أن يفصل الدين عن المجتمع, الدين تاريخيا مكون اجتماعي, وليس مجرد مكون شخصي أو فردي. قد يبدأ الدين كذلك, أي يبدأ تجربة شخصية فردية, وقد يظل كذلك في بعض التجارب. لكن بعض التجارب الدينية الشخصية الفردية يتم تحويلها إلي تجربة مشتركة تخلق جماعة, تصبح مجتمعا ثم تتطور إلي ##أمة##. في هذه الحالة الأخيرة يصبح الدين قوة وشيئا لا يمكن انتزاعه من المجتمع.
الدولة ليست المجتمع, بل هي الجهاز الإداري والسياسي والقانوني الذي ينظم الحياة داخل المجتمع. وإذا كان الدين قوة اجتماعية, فهو أيضا ليس المجتمع; إذا المجتمع جماعات وأديان. ومن حق هذه المجتمعات علي الدولة أن تحمي بعض الجماعات من الافتئات علي حق الجماعات الأخري. من هنا فدور الدولة كجهاز منظم لسير الحياة في المجتمع _ المتعدد الأديان بطبيعته _ يجب أن يكون محايدا, بأن لا يكون للدولة دين تتبناه وتدافع عنه وتحميه. إن دورها حماية الناس لا حماية العقائد.
لم يحدث في التاريخ كله – رغم كل الادعاءات الأوهام – مثل هذا الفصل بين الدين والمجتمعات. الدولة ليس لها دين, ولا يصح أن يكون لها دين. ##دين الدولة الإسلام##, عبارة يجب أن تكون مضحكة; فالدولة لا تذهب إلي الجامع ولا تصلي, والدولة لا تذهب إلي الحج, ولا تصوم, ولا تدفع الزكاة. الدولة ممثلة في النظام السياسي مسؤولة عن المجتمع بكل أطيافه بما فيها الأديان. معظم الدول العربية والإسلامية موزاييك من الأديان. وهذا يعني أن الدولة التي لها دين تلغي حقوق المواطنين الذين لا ينتمون لهذا الدين, بل الأدهي من ذلك أن هذه الدولة تضطهد أبناء نفس الدين الذين يفهمون الدين بشكل يختلف عن المؤسسات الرسمية للدولة. هكذا تصبح مفاهيم مثل ##المواطنة## و##المساواة## و##القانون## مفاهيم خاوية المعني.
الحاجة الثانية: هي الدساتير, من العبث القول أن المواطنة هي أساس الانتماء, ويقال في نفس الدستور ##الشريعة _ أو مبادئ الشريعة – هي المصدر الرئيسي للتشريع##, هذا تناقض حدي جدا بين مادتين في الدستور تلغي إحداهما الأخري. يزداد الأمر تناقضا حين يحرم نفس الدستور في مادة أخري قيام أحزاب علي أساس ديني, لا اله إلا الله!!
الحزب الديني يقول نفس الكلام (الدستوري), يقول ##الإسلام دين الدولة والشريعة هي مصدر التشريع##, كيف تحرم قيام حزب يتبني نفس القيم الدستورية التي يتبناها, ويدافع عنها بضراوة, الحزب الوطني الحاكم في مصر.
* ممارسات قروسطية
ماذا يعني أن يكون للدولة دين؟ وماذا يعني أن يتنازع المتنازعان _ الحزب الوطني والجماعة ##غير الشرعية## – علي أحقية الحكم علي أساس مرجعية ##الشريعة##؟ هذا يعني ببساطة تهميش غير المسلمين في المجتمع, وانظر حولك وتأمل حال الأقباط والبهائيين في مصر, وما حدث لغالبية الأقباط من اعتبار ##الكنيسة## وطنهم. حدث أيضا باسم الشريعة تهميش دور المرأة في المؤسسات السياسية والتعليمية والإعلامية. لا يصرخن أحد في وجهي بأن ذلك غير صحيح, فأنا أعلم أن ثمة ديكورات للتجمل في عالم تضغط فيه المنظمات العالمية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة علي الأنظمة والأحزاب السياسية. الذي يعانيه المواطن المسلم غير المتفق مع الدولة في تفسيرها وتفسير مؤسساتها للدين أنكي وأمر; فهناك الاتهامات الجاهزة بالردة والخروج علي الثوابت, وهناك المطاردات البوليسية بالاعتقال, بل وصل الأمر مع من يسمون أنفسهم ##القرآنيين## أو ##أهل القرآن## باضطهاد أهلهم وذويهم. كل هذا يجعل من ادعاء ##عدم وجود كنيسة في الإسلام## محض بلاغة لفظية فارغة من المعني; فالكنيسة لم تفعل بمخالفيها في العصور الوسطي أكثر من ذلك.
في العقد الحالي _ العقد الأول من القرن الواحد العشرين والذي يوشك علي النهاية _ صارت الدولة أكثر راديكالية في تحديد دينها وفي ملاحقة خصومها, وإن لم تنص علي ذلك في دساتير أو قوانين. صارت الدولة ذات الأغلبية السنية تضطهد الشيعة, والعكس صحيح, وتزايد الاحتقان بفعل الخطابات الإعلامية غير المسئولة, فتم تصنيف البشر داخل الدين الواحد إلي طوائف تكفر كل منها الأخري. العراق حالة محزنة بحكم تاريخه الطويل في العيش المشترك والتزاوج والمشاركة الكاملة في الوطن. في لبنان _ هايد بارك العرب _ صار التأزم الطائفي بينا في الواجهة السياسية. كل هذا يرشح حلا وحيدا: أن تتخلي الدولة عن امتلاك الدين. الدولة لا دين لها. تحكي قصة لجنة إعداد دستور 1923 في مصر أن أعضاء اللجنة ترددوا في مسألة هذه المادة التي تنص أن ##دين الدولة الإسلام##, هل هي ضرورية أم يمكن الاستغناء عنها. والغريب في القصة أن أعضاء اللجنة الأقباط عبروا بوضوح عن رأيهم بأنه ##لا ضرر## من النص علي ذلك في الدستور. وقد كان, علق طه حسين فيما بعد ##وقد وجدنا فيها الضرر كل الضرر##. المعني هنا أن التجربة كشفت عن ضررها. وفي تقديري أن أعضاء اللجنة الأقباط مغمورين بمناخ شعارات ثورة 1919 ##الدين لله والوطن للجميع## أرادوا أن يعبروا لإخوانهم المسلمين عن ثقتهم وفخرهم بالانتماء للفضاء الثقافي العربي الإسلامي. أما وقد ظهر الضرر, فعلي المسلمين أن يردوا الدين ويسترجعوا ثقة إخوانهم الأقباط بإلغاء هذه المادة من الدستور, فهل هم فاعلون؟!