تغير المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط, فلم يعد العرب لاعبين, بل أصبحوا ساحة للعب, بمعني أنهم أصبحوا ساحة تجاذب بين إسرائيل وإيران. فلا العرب ولا قضية أراضيهم التي تحتلها إسرائيل ولا حتي تهديداتهم, هي الشاغل الأهم للرأي العام الإسرائيلي ولا بالنسبة لحكومة بنيامين نتنياهو. الشاغل الأهم بالنسبة لإسرائيل اليوم هو ##إيران النووية##, أو إيران التي تقترب من إنتاج القنبلة, ورئيسها الذي يعلن كلما راق له أن الصهيونية قد انتهت, أو أن إسرائيل يجب أن تمحي من علي الخريطة. هذا التهديد الوجودي لإسرائيل جعلها
تركز علي إيران من ناحية ما يعرف بالندية الاستراتيجية في المنطقة. أما إيران فكل تركيزها هو تعظيم مكاسبها في المنطقة, وأن تكون هي محاور الغرب الوحيد بما في ذلك الولايات المتحدة حول قضية توازن القوي والاستقرار في المنطقة, وفي هذا لا تختلف إيران أحمدي نجاد وخامنئي المعاديين للغرب من حيث الاستراتيجية الإقليمية عن إيران الشاه صديقة الغرب. الفارق هو أن العرب في معادلة اليوم أصبحوا مجرد أدوات في صراع الندية الاستراتيجية بين إسرائيل وإيران. إيران تريد العرب بناسهم وأرضهم وقودا لحربها القادمة مع إسرائيل, تهدد بهم أحيانا أو تستخدمهم كوقود بالفعل. أما إسرائيل فتري في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي مجرد وسيلة تبريد إقليمي تجعل العرب يقبلون دور الوقوف علي الحياد في حال هجوم إسرائيل علي المنشآت النووية الإيرانية, لذا تدخلهم في زواريب ما يسمي بـ##العملية## السلمية.
وفي هذا السياق, نقرأ أمرين: الأمر الأول هو زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلي لبنان, والثاني هو انطلاق المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. كلا الحدثين يثبت بلا شك أن العرب أصبحوا أدوات لعب أو ساحة لعب بدلا من فاعلين إقليميين. لقد تبدلت طبيعة الصراع الاستراتيجي في المنطقة, والأكثر عجبا من تبدلها هو قبول العرب لدورهم الجديد, سواء أكان هذا الدور قد رسم في إسرائيل أو أمريكا أو طهران. جماعة ##المقاومة والممانعة## تخضع لرؤية إيران, وجماعة الاعتدال ##سرقتهم سكين## واشنطن, وسحرتهم العملية السلمية ##اللي مش خلصانة##.
ولنبدأ بزيارة الرئيس الإيراني إلي لبنان كمؤشر للصراع الاستراتيجي الجديد. بداية, الذي تابع كلمة أحمدي نجاد في لبنان وما تبعها من تصفيق حار أثناء حديث الرجل عن أبطال المقاومة, وما بدا من استهجان وامتعاض لدي جمهور مستمعيه عند ذكره اسم رئيس الحكومة سعد الحريري.. من تابع ذلك ترتسم لديه صورة واضحة عما آلت إليه الأمور. المهم أن نعرف أن أحمدي نجاد لم يأت إلي لبنان لنصرة نصر الله وحزبه, ولكن لاستخدام حزب الله واللبنانيين الشيعة لتخويف إسرائيل, وبهذا تكون رسالته لإسرائيل هي التالي ##إن هاجمتم مفاعلاتنا النووية, فإن رجالنا في حزب الله وفي حماس سوف يشعلون الأرض نارا تحتكم##, وأعتقد أن الرسالة بالنسبة للإسرائيليين قد وصلت كما قصدها صاحبها تماما.
ومن هنا, لا تنظر إسرائيل اليوم لا إلي حماس ولا حزب الله علي أنهما حركتان مقاومتان من أجل تحرير الأرض العربية, بل تنظر إليهما علي أنهما أداتان من أدوات صراع إسرائيل مع إيران. ويجب ألا نغفل أنه عندما كانت طبيعة الصراع في السابق مختلفة (أي العرب ضد إسرائيل) وقفت إيران علي الحياد, بل أيدت إسرائيل أحيانا, أما اليوم فإيران لا تطالب العرب بالوقوف معها في حربها مع إسرائيل فحسب, بل تطالبهم بأن يكونوا وقود هذه الحرب سواء أكان المعتدي علي إيران هو إسرائيل أو أمريكا. وليس بعيدا عن الذاكرة تهديد أحمدي نجاد أنه في حال اعتداء أمريكا علي المنشآت النووية الإيرانية, فإن أتباعه سيحرقون المصالح الأمريكية في الخليج. أما في حالة أن تشن إسرائيل الهجوم علي إيران, فأحمدي نجاد سوف يستخدم بلا تردد الدم العربي بدلا من الدم الإيراني, فدم العرب أرخص بكثير بالنسبة لطرفي الصراع. هذا عن إيران, أما كيف يري الإسرائيليون العرب في معادلة الصراع الاستراتيجي الجديدة في المنطقة, فحدث ولا حرج.. هي نفس الرؤية العنصرية البغيضة, من رؤية مائير كاهانا وعوفاديا يوسف اللذين نعتا العرب بالصراصير والحشرات, إلي رؤية ديان ومائير اللذين صورا العرب كمجموعة من الكسالي لا تستطيع أن تشن حربا, إلي رؤية وزير خارجية إسرائيل الحالي الذي وصف العرب بأنهم مجموعة من الإرهابيين غير متحضرين.
إذن لبنان ليس بلدا تحميه إيران من حرب قادمة, لكن لبنان هو أداة التهديد, وكذلك وقود الحرب القادمة بين إسرائيل وإيران, فبدلا من التضحية بأبناء إيران مما يكلف القيادة الإيرانية ثمنا سياسيا باهظا في الداخل, يكون من الأسهل علي نجاد أن يدخل حربه مع إسرائيل بدماء عربية علي الجبهة اللبنانية.
في ظل هذا التغير الجديد في طبيعة الصراع وفي نوع التوازن الاستراتيجي, يسهم العرب بثلاثة تصورات: الأول هو تصفية دولهم من الداخل من خلال مقاومات وهمية تتضخم علي حساب دولها حتي تكاد تبتلعها. والتصور الثاني هو إلحاق دولهم طوعا في قاطرة خارجية تجرهم. أما التصور الثالث فهو الاعتماد علي دول الاستعمار القديم أو أمريكا في عملية إنقاذ الوضع القائم. ولقد كان آخر مشاريع القاطرة هذه, هو مشروع رابطة دول الجوار المقترحة من قبل الجامعة العربية التي تلحق مصير العرب بإيران وتركيا, وهي رؤية قريبة من الرؤية الإيرانية التي تري أن هناك جبهة مقاومة تمتد من إيران إلي تركيا مرورا بحماس وحزب الله. وحتي نكون منصفين, فرؤية رابطة دول الجوار لا بد أن نراها في سياق نداءات الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسي المتكررة ومنذ فترات طويلة لتدارك الوضع العربي المقلق. وعمرو موسي دبلوماسي عربي متميز, وظني أنه ومن حوله لم يجدوا حلا للوضع العربي المهلهل سوي إلحاقه بقاطرة إقليمية تجره, وبهذا تكون الجامعة العربية قد حلت نفسها طواعية. فالقاطرة العربية الكسيحة إما أن تجرها إيران بمفردها, لا ندري إلي الجنة أم الجحيم, وإما أن تجرها إيران وتركيا معا, وفي ذلك تكون تركيا جزءا من القاطرة كبوليصة تأمين ضد نوايا إيران السيئة, أو تستغيث بأمريكا والغرب.. إذن بعد عقود طويلة نبحث عن الاستعمار بشكله العثماني أو الفارسي أو الغربي. المهم هو أننا لا نحرك أنفسنا بأنفسنا, لا بد أن يحركنا الخارجي, وهي المدرسة ذاتها التي تقول ##حبيبي ضاع مني يا مين يجيبوا لي##, حتي الحبيب في أغانينا الشعبية نحتاج إلي من يأتينا به.
قد تكون لدينا خيارات أخري أكثر إشراقا من الرؤي الثلاث التي ذكرتها, لكننا نحتاج إلي مناخ حر نتحدث فيه عن خياراتنا الأخري المتاحة, من دون أن نهدد من الداخل أو من
الخارج. المنطقة مليئة بالعقول القادرة, فقط اسمحوا لها بحديث حر وجاد, بدلا من أحاديث النفاق, سواء بممالأة الغرب أو ممالأة القائمين علي الحكم, أو بالتصفيق الحار لأحمدي نجاد والهتاف باسمه.