مع كل حدث يحمل طابعا طائفيا تتجدد المخاوف، ورغم حالة عدم اللامبالاة التى باتت سمة عامة، إلا أن الاحتقانات والتوترات تطفو هنا وهناك، فهى فى القاع كما أنها على السطح. ويأتى هذا المقال استكمالا لحديث سابق عن المشكلة الطائفية ملخصه أن هناك فرق بين الطوائف كمكونات اجتماعية وثقافية، والطائفية بوصفها تعبيرا عن نزعات تعصب وكراهية قد تتحول إلى عنف طائفى، وهو الأمر الذى نشهده بين حين وآخر. وتعكس الطائفية إخفاق الدولة وإحجام من بيدهم مقاليد الأمور عن إعمال مبدأ المواطنة، وهى قضية باتت واضحة وضوح الشمس، على الأقل لدى الفئات المؤمنة بفكرة حكم القانون وعدم التمييز، ومبدأ المساواة أمام القانون. ويعنى الإقرار بوجود أزمة مواطنة، أن الخلل الرئيسى المسبب للنزعات الطائفية هو الخلل المؤسسى، وهو خلل تاريخى وهيكلى، فالقانون ومؤسسات التنشئة ليست ملائمة أو مفعلة من أجل بناء وحماية مبدأ المواطنة. وإذا الخلل معروف فمن المفترض، لو توافرت إرادة فعلية للحل، أن تتخذ الدولة كافة التدابير اللازمة لأن تكون المواطنة واقعا يعيشه الأفراد على اختلافاتهم وبدون تمييز أى كان. ولكن طرق تعامل الدولة مع المشكلات الطائفية هى جزء من المشكلة عوضا عن أن تكون حلا لها، لأنها قد تفعل أى شئ إلا توفير العلاج الصحيح وهو المضى عن إقرار مبدأ المواطنة عملا لا قولا.
تعتمد الدولة إزاء المشكلات الطائفية سلسلة من المواقف والتدابير والمبادرات، بداية من الإنكار، وإنتهاء بـ “قعدات العرب”، مرورا بأساليب القمع إذا لزم الأمر. وفى الحقيقة أن الإنكار ليس فعلا سلبيا، بل هو التعبير السياسى عن غياب الإرادة فى توفير حلول فعلية على المستوى القانونى، والتربوى والثقافى والسياسى، أو بصورة أدق الإصرار على تغييب الحق فى المواطنة. ومن ثم فإن الإنكار ينطوى على نوع من التلاعب السياسى بالمشكلة، حيث يتم تصوير المشكلة على أنها مرض اجتماعى لا دخل للدولة فيه، وأن هذه الأخيرة هى الأكثر عقلانية وهى الرهان الوحيد لمواجهة الغباء المجتمعى. وثمة وجه آخر لإنكار المشكلة، وهو الخطاب الاحتفالى ومعزوفته الشهيرة المعروفة بـ “الوحدة الوطنية” والتى، رغم بريقها، إلا أنها وسيلة سياسية لإنكار حقوق الفرد كـ”مواطن” تحت غطاء الحفاظ على حقوق الجماعة الدينية كـ”طائفة”، وبمجرد قبول الفكرة واستخدام الطائفة كمعبر هام لعلاقة الفرد بالدولة، يتم حجب الحق فى المواطنة أو على الأقل تقليمه وتطويعه، فتكون الهوية الدينية من المكونات الحاسمة لعلاقة الفرد بالدولة، فهى مثل الجنسية وفصيلة الدم، كما هو مدون فى بطاقات الهوية. وهكذا يعاد إنتاج الذهنية الطائفية، من خلال الإحساس بقوة الإنتماء الدينى، ومن خلال تلك البطاقة التى نحملها كدليل مؤسسى على هويتنا الدينية التى لا يمكننا الوجود فى الدولة “الدنيوية” بدونها.
وإذا كانت مثل هذه التدابير لا تعمل سوى تثبيت وإعادة إنتاج الذهنية الطائفية، فإن حلولا أخرى يتم تقديمها من قبل الدولة لا تعنى فقط إنكار جذور المشكلة وأسبابها، بل إنكار القانون وتغييب مؤسسات الدولة، والمقصود هنا حل المشكلات من خلال جلسات الصلح، أو من خلال كيانات لا يمكن توصيفها ضمن مكونات أى دولة حديثة مثل “بيت العيلة”؟! ولعل السؤال البسيط الذى يطرح نفسه هو: لماذا تصر الدولة على استخدام وسائل تقليدية عاجزة عن حل المشكلة؟ والأمر ببساطة ليس لأن الوسائل الحديثة غير ممكنة ولكن بسبب أنها غير مرغوبة.
باختصار، وهو كلام معاد على الأرجح، فإن كل المشكلات الطائفية، كإستعدادات ذهنية وممارسات تصل لحد العنف فى كثير من الأحيان، هى أعراض لمشكلة أعمق وهى أزمة المواطنة، والتى هى بدورها أزمة هيكلية ومؤسساتية، وما لم تحل هذه الأزمة، فكل الكلام عن التعايش والوحدة ليس له مردود حقيقى، بل غالبا ما يفاقم المشكلة ويعمقها. وإلى أن تتوافر الإرادة الحقيقية لبناء دولة المواطنة الحقة فسوف تظل الطائفية مرضا يصيب الجسد الاجتماعى، وسوف تظل المخاوف والاحتقان تؤرق راحة المجتمع وسلامه، فى كل الأحوال تظل الطائفية مسئولية الدولة.