إن كان هناك من خطأ رئيسي متكرر ترتكبه الولايات المتحدة عند تعاملها مع بقية العالم, فهو الافتراض أن إرساء الاستقرار السياسي أمر سهل. لقد أسقطنا نظام صدام حسين في العراق, ومن ثم فككنا بنية الدولة العراقية بكاملها باستهتار, وكلنا ثقة بأننا قادرون بكل بساطة علي إنشاء بنية جديدة. أطحنا بحركة طالبان في أفغانستان وكنا واثقين من أننا سنبني دولة أفغانية عصرية جديدة بفضل المساعدة الأجنبية والانتخابات والمفاهيم الأمريكية. فالحكومات التي كنا نساعد علي تأسيسها ـــ ديموقراطية وعلمانية وجامعة ـــ كانت في النهاية أفضل بكثير من تلك التي سبقتها.
كان يجدر بنا أن نولي اهتماما أكبر لكلمات رجل حكيم استهل إحدي دراساته الريادية بالإعلان أن ##أهم ما يميز البلدان ليس نوع حكومتها بل مدي كفاءة حكمها##.
لننظر من حولنا. فالكثير من مشاكل العالم ــ بدءا من الإرهابيين في وزيرستان وصولا إلي وبـاء الإيدز الفتاك في أفريقيا والقرصنة في الصومـال ــ تسببت بها أو زادت من حدتها حكومات عاجزة عن بسط سلطة حقيقية علي أراضيها أو شعوبها. هذه كانت الفلسفة الأساسية لصامويل هانتينجتون, أعظم عالم سياسي في نصف القرن الماضي, الذي توفي عشية عيد الميلاد.
يشتهر هانتينجتون بكتاب Civilizations The Clash Of(صدام الحضارات), لكن سمعته الأكاديمية ترتكز علي أعماله الأقدم. تحليله للنظام السياسي كان له تطبيقات عملية فورية. فخلال دراسته الموضوع, طلبت منه إدارة ليندن جونسون تقييم تقدم حرب فيتنام. وبعد قيامه بجولة هناك, جادل عامي 1967 و1968 بأن الاستراتيجية الأمريكية في جنوب فيتنام مشوبة بالكامل. كانت إدارة جونسون تحاول شراء دعم الناس من خلال الإعانات والتنمية. لكن المال لم يكن الحل بنظر هانتينجتون. فشرائح المجتمع في جنوب فيتنام التي قاومت جهود الفيتكونج تمكنت من ذلك لأنها كانت تنتمي إلي مجتمعات محلية فعالة محورها الدين أو الروابط الإثنية. لكن الولايات المتحدة أرادت إنشاء دولة فيتنامية عصرية ولذلك رفضت تعزيز مصادر السلطة ##المتخلفة## هذه, فهذا التحليل الذي يعود إلي 40 عاما يصف معضلتنا ففي أفغانستان اليوم.
لاحظ هانتينجتون نزعة مقلقة. ففي بعض الأحيان, كان التقدم علي الطريقة الأمريكية ــ المزيد من المشاركة السياسية أو النمو الاقتصادي الأسرع ــ يزيد المشاكل بدلا من حلها. فإذا كان لدي بلد ما عدد أكبر من الناشطين اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا, لكنهم يفتقرون إلي مؤسسات سياسية فعالة, مثل الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والمحاكم الجديرة بالثقة, تكون النتيجة المزيد من عدم الاستقرار. هذه كانت حال أجزاء واسعة من العالم الثالث خلال العقود الثلاثة الماضية, مثل باكستان التي ازداد عدد سكانها من 68 مليونا عام 1975 إلي 165 مليونا اليوم, والتي أظهرت حكومتها عجزها عن تقديم خدمات أساسية مثل التعليم والأمن والرعاية الاجتماعية.
وفي مواجهة التغيير, غالبا ما لجأت الشعوب إلي مصدر أمنها الأقدم والأكثر ديمومة: ألا وهو الدين. هذه كانت الرسالة الأهم في نظرية ##صدام الحضارات##. وفيما كان الآخرون يحتفلون بانهيار الشيوعية وانتشار العولمة, رأي هانتينجتون أن الدين يعود إلي الواجهة مع زوال الإيديولوجية كمصدر للهوية البشرية.
علاقتي الخاصة بهذا العمل بالذات معقدة. لقد طلب مني هانتينجتون أن أعلق علي مسودة من النص عندما كنت طالب دراسات عليا لديه. فقلت له إنه علي الرغم من أنني لا أوافقه الرأي في بعض العناصر الأساسية فيه, فإن المقال آسر ويحث المرء علي التفكير. وبعد بضعة أشهر, عندما أصبحت مدير تحرير مجلة فورين أفيرز, ساعدت في نشره. مازلت أظن أنه أخطأ في تقييمه لبعض الأمور المهمة, لكن الكثير من مضمون النص له وقع عميق وينم عن تبصر.
غير أن علاقتي بصامويل هانتينجتون لم تكن معقدة. كنت أكن له الإعجاب الكامل. كان لامعا, ونابغة تخرج في جامعة ييل في سن الـ18, وكان أكاديميا رائدا ومعلما متفانيا وكريما.
كان واسع الاطلاع بشكل لافت. من خلال كتابه الأول, أرسي أسس العلاقات المدنية العسكرية. وكتابه الأخير تمحور حول الديموجرافية والحضارة. كما أنه كان شديد الانفتاح. وفي حين أن الكثير من الأكاديميين من جيله وتوجهاته السياسية ـــ المحافظين بطبعهم ـــ استاءوا من التظاهرات الجامعية في ستينيات القرن الماضي, رأي هانتينجتون أن الطلاب المتطرفين جزء متجدد من المتزمتين الأمريكيين المحقين في غضبهم لأن المؤسسات الأمريكية تخل بالمبادئ التي تأسس البلد عليها. وقد اختتم أحد كتبه, الذي يعتبر أيضا من الأعمال المهمة, بقوله عن هؤلاء النقاد: ##يقولون إن أمريكا كذبة لأن حقيقتها لا تتطابق مع مثلها. إنهم مخطئون. أمريكا ليست كذبة, بل هي خيبة أمل. لكنها خيبة أمل فقط لأنها مصدر للأمل##.
تعلمت من هذه الكتب وتعلمت أيضا من الرجل نفسه. لم أر صامويل هانتينجتون قط يقوم بأعمال تنطوي علي خداع أو مكر, ولم أره يضحي بمبادئه من أجل النفوذ أو السلطة أو مصلحته الخاصة. لقد عاش وفقا للأسس الأنجلو بروتستانتية التي كان يؤمن بها: العمل الدؤوب والنزاهة والإنصاف والشجاعة والوفاء والوطنية.
في مسـرحيــة روبــرت بولـــت عــــن السير توماس مور التي تحمل عنوان A Man for All Seasons, يتساءل ريتشارد ريتش الشاب عن جدوي كونه معلمـــا قائـــلا: إن كنت [معلما جيدا], من سيعرف ذلك؟ فيجيبه مور: أنت وطلابك وأصدقاؤك والرب. هذا ليس بالجمهور السيئ. علي الإطلاق.