أعتقد أن الأعمال الأدبية توجد لكى تُقرأ لا لأن يُكتب عنها وخاصة من غير المتخصصين، ومع ذلك فثمة شئ ما يجعلنا نود أن نعبر عن رأينا مكتوبا، وفى هذا المقال أقدم وجهة نظر سريعة عن رواية “إنى وضعتها أنثى” للكاتبة المغربية سعيدة تاقىالصادرة عن دار الهلال. وما أثار انتباهى كقارئ لهذه الرواية أنها صيغت بطريقة تجعل من القارئ طرفا فى عملية الكتابة،إنها رواية عن الأنوثة وهذا صحيح، ولكنها أيضا رواية عن الحكى عن الأنوثة. فقد نجحت الكاتبة فى أن تضع القارئ على منصة الكتابة وكأن الرواية تبدأ من لحظة القراءة، فثمة اصوات متعددة تروى القصة أو بالأحرى إنعكاسات الحكاية على مرايا ذوات متعددة. إنها قصة تلك الفاتنة التى “لم تدرك يوما جمالها”، قصة تم تشييدها بطريقة جيولوجية، فالسرد فيها طبقات يروى الرجالجانبا منها، فلا نعلم إذا ما كانت صورتها قد اكتملت أم لا؟ فالسرد أشبه بعملية تنقيب وكشف، وما نحصل عليه هو مجموعة من الصور داخل المرايا وخارجها، بالألوان وباللغة، ولا تبدأ مهديةفى الاكتمال إلا عندما تتحرر من أصوات الرواة وتمتلك زمام الحكى وتفرض وجودها وتمردها الأنثوى بلغة إبداعية وعميقة. وعلى القارئ أن يعايش تلك الهوية الأنثوية وإنعكاساتها فى إلتباسات اللغة، وعليه أن ينتظر إلى أن يصل إلى طبقة الصوت التى تقول “صوتى يتلو أصواتكم جميعا، أنت وسارِدُك وحبيبى، تمشى خطاىَ على هدى خطاكم جميعاً، وأنا الحكاية وأصل الرواية وفصل المرايا، أرى ذاتى بأعيُنِكم أخرى، لا أرانى، ولا أفلح الآن فى ارتداء ما اخترتموه لى من أهواء وأحلام“.
ولا شك أن الكثير من الأعمال الأدبية تحدثت عن واقع المرأة فى مجتمعاتنا، والكثير منها أبدع فى الوصف والتعبير، ويمكن أن نقول أن رواية “إنى وضعتها أنثى” هى أحد هذا الأعمال التى تناولت الحضور الأنثوى وغيابه فى مجتمعاتنا. ومع أن الكاتبة نجحت بشكل رائع فى تقديم لغة مكثقة ومبدعة، إلا أن الإطالة والتكرار فى الكثير من المواقع أدى إلى إضعاف الرواية فى بعض مواقعها. ومع ذلك، تظل لغة هذه الرواية مميزة وتستحق التقدير. الأنوثة تتجلى فى هذه الرواية روحا وجسدا، حرفا ولونا، بأصوات متعددة، فهى انعكاس الصورة عندما تُحكى بصوت الرجال، إنها الصورة الندية التى لم تجف بعد، وهى الحيرة التى تعبر عنها لغة لا تخلو من توتر “ما الفرق بين أن تسير إلى الأمام أو إلى الخلف إن كنت لا تعرف أين أنت”. وهى الحضور عندما تحكى ذاتها وتعرف أين هى، فتكون صوت الروح وهى تهيم فوق المدينة لتصف الشوارع وأنماط الحياة والملابس وهى معلقة على أحبال الغسيل كشاهد على قسمة الذكورة والأنوثة، وتكون الجسد وهى تكشف حصار الأنوثة فى جسد هو السجن وهو الانعتاقالمحتمل، وهى اللغة عندما تتحرر من قيودها فترصد عورات الثقافة وإلتباسات اللغة ذاتها. لقد استطاعت الكاتبة أن تقدم لنا الوجود الأنثوى بلغة وتعبيرات جميلة تدفع القارئ للتوقف عندها للاستمتاع بجمال العبارات. وتبقى هذه الرواية عن الحكى، من يحكى عن المرأة والأنوثة؟ إنها عملية تنقيب فى طبقات السرد بحثا عن صوت الأنثى، الذى يأتى كصدى: “لصوتى الآن صدى آخر، يكللُ ذلك الصمت الذى طوانى لزمن طويل بوقعِ الحُلم، يتجاوز جسدى الذى يعلنُ يومَهُ الأول فى الحياة. ويهفو إلى نسجِ الحكاية بصوتى أنا. لست السارد عزيز، ولست الكاتب عمران، ولست التشكيلى عزيز، ولست مهدية الحكاية، أنا مهدية الآخرى التى لم ترفع صوتها فى كل أجزاء الرواية، بل تواتر الرواة نقل ما يظنونه حكايتى. ولم تكن إلا مراياهم تعكسُ ملامحَ انسحاب صوتى خلف صخب أصواتهم. حكاية مهدية المؤنّثة، لم ترو..”