إن مسئولية تربية الأبناء هي الأعظم من بين كل مسئوليات الحياة, لكنها ليست الأسهل! وأنا من بين الذين يعتقدون أنها تبدأ منذ أن يكون الطفل في بطن أمه, وتأخذ شكلها العملي مع الرضعات الأولي, وتتطور عمليا مع تقدم الطفل في العمر.
في هذه السلسلة من الأحاديث نركز علي كيفية إعداد الأبناء لصنع أحد أخطر اختيارات حياتهم: اختيار شريك الحياة. ولعله ليس بمفاجأة أن هذا الإعداد لابد أن يبدأ عند اللحظة التي عندها يستطيع ابنك أو ابنتك أن يختار بين شيئين أو أمرين, ولو بسيطين, دون أن يعتمد علي ماما لكي تختار له, أو يختار شيئا أو سلوكا لمجرد أن ينال رضا الكبار من حوله, وليس من واقع التفكير في سبب اختياره…هنا تبرز إحدي أهم الأدوار التربوية للأسرة: وهي تطوير مهارات الاختيار.
لكن تطوير مهارات الاختيار لدي الأبناء يعتمد كثيرا علي البيئة الأسرية التي نوفرها لهم…فجدران البيوت هي معمل تشكيل الشخصية, وقاعدة الانطلاق للمستقبل. فإن ما يراه الابن والابنه في حياة بابا وماما هو الذي يعطي المصداقية وقوة الدافع لما نجتهد أن نربيهم عليه, ونحاول أن نطوره في شخصياتهم…علي سبيل المثال, من أهم ما يؤثر علي نظرة الأبناء للزواج هو قوة وعمق القناعة الشخصية للوالدين تجاه قدسية العلاقة الزوجية, والتي تعني التكريس الكامل لشريك الحياة للدرجة التي تجعل كلا من الزوج والزوجة يجدان في بعضهما تفردا لايتوفر في أي شخص آخر, وتجعل علاقتهما الزوجية تدوم حتي يفرق الموت بينهما. وعندما يكبر الأبناء في إطار هذا الفكر سيدركون بشكل عملي أن الزواج يجعل الرجل والمرأة جسدا واحدا, ليس فقط في العلاقة الحميمية بينهما, بل في كل جوانب علاقتهما معا.
تقليد اتفقنا عليه كأسرة, ومارسناه بثبات لسنين:ألا تتطرق أحاديثنا المرحة معا- وهي كثيرة- إلي تقديسنا كأب وأم لديمومة زواجنا..لدرجة أن إحدي صديقاتنا فوجئت بما سمعته عندما قالت لابننا ذات مرة-علي سبيل المزاح:بابا بيسافر كتير …إوعي يكون متجوز واحدة ثانية! فقد جاء رده تلقائيا وحاسما:طنط…إحنا في البيت متفقين منهزرش في الأمر ده! قد يري البعض في هذا التقليد تزمتا, لكن مع الوقت أدركنا في حواراتنا الأسرية عن الزواج أنه أضاف ثقلا وبعدا ناضجا لنظرة ابنينا إلي الزواج.
والسؤال: إذا كانت علاقتنا الزوجية تشوبها من حين لآخر خلافات مثل التي تحدث بين أي زوجين…تري هل لازلت أستطيع أن أتحاور مع أبنائي عن الزواج الناجح, ومقاييس اختيار شريك العمر؟
من الطبيعي أن كل زواج مستقر ومثمر لابد أن يمتحن من حين لآخر, ربما باختلاف وجهات النظر بين الأبوين, أو بخلافات قد تكون أعمق وتحتاج لإرشاد ومساعدة من آخرين حتي توضع في حجمها الحقيقي.فلايجب أن يعوقنا هذا من أن نعلم أولادنا عن قيم الزواج الأفضل…فأن نختلف ونتفق, أن نغضب ثم يرانا أولادنا نهدأ ونعتذر, ونتصالح ونغفر, أن يراقب أبناؤنا كيف نقترب من بعضنا البعض مع السنين إلي درجة التوحد معا…كل هذا سيزيل الكثير من الغموض لديهم عن طبيعة تطور منحني نمو العلاقة بين الزوجين وسيجعل توقعاتهم الرومانسية للعلاقة بين حبيبين قريبة من الواقع العملي.
الحديد بالحديد يحدد هكذا الإنسان وجه صاحبه…أو هكذا تفعل العشرة بين الناس. فلكي يصقل الحديد ليؤدي الغرض الذي يصنع من أجله يحتاج إلي ما هو في نفس صلابته أو أقوي لكي يشكله. وأثناء التشكيل ترتفع درجة الحرارة, بل وقد يخرج شرر, حتي يتطبع الواحد علي الآخر. أن يثير حب التحدي في الآخر لكي يكون أفضل هو جزء من طبيعة نمو العلاقة الزوجية…فليس هناك قوة تشكل العلاقة بين اثنين فيصبحان وكأنهما واحد مثل إثارة الفكر, والتشجيع علي استخدام المواهب, وإتاحة الفرصة لتبادل الآراء في جو من الثقة والأمان.
لاتجعل إحباطاتك الشخصية تمنعك من محاولة أن تبدأ من جديد في تحريك الأمور التي لم تتحدث عنها أبدا مع شريك حياتك, أو في تغيير توجهك الشخصي نحوه, فبادر بإزالة غبار سوء الفهم أو التقدير لأي سبب كان,حتي تقدم لأبنائك نموذجا متحولا وجديدا,وحتي لاتعاق حواراتك معهم عن زواجهم المستقبلي…وكما يتجاوب الحديد مع الحديد الذي يحاول أن يشكله أو يحدده…هكذا سيتجاوب شريك العمر معك, ويتشكل فكر الأبناء عن الزواج في كل مرة يجمعكم حوار دافئ حول المستقبل.
www.FocusOnTheFamily.me