كنت أظن أنني سأتوجه بحديثي هذه المرة إلي قداسة البابا تواضروس, لكن المشاعر التي غمرتني أثناء حضوري طقس تجليسه علي كرسي مارمرقس الرسول ملأتني بخواطر أخري أريد أن أشارك بها من يتابعون هذا الركن من وطني.
عرس الأحد الماضي لم يكن مجرد احتفال كنسي بتسليم مفتاح الكنيسة للبابا الجديد; فقد تحول الطقس إلي فرصة لإعلان إلهي أمام العالم كله, مؤكدا بركة اختيار الله لمن يقود شعبه إلي مرحلة جديدة تحتاج لرجل مثل البابا تواضروس.. عطية الله!
ومع أن هذه المناسبة المهيبة يحكمها في العادة طقس كنسي رتبه الآباء, وتوارثته الأجيال لقرون عديدة, ليمارس عندما تنتقل عصا القيادة إلي البطريرك الجديد.. إلا أن مراسم التجليس في هذه المرة تخطت حدود الطقس والتقليد لتصبح خدمة عبادة تاريخية حركت الملايين ليمجدوا الله, وقدمت بأسلوب صادق وعملي نموذجا لعمل نعمة ربنا ومخلصنا, ابن الله الحي, في حياة أبنائه, والتي أثمرت تواضعا غير مسبوق, ومحبة غامرة لم ير العالم مثيلا لها.. فأبهرت النعمة البعيدين والقريبين! ما هذه الروعة يا كنيسة المسيح القبطية؟! منذ جاءك مارمرقس الرسول بالإنجيل, والإيمان الذي تمسكت به رواه نهر دماء الشهداء, فأنت شجرة جيدة تصنع أثمارا رائعة بحسب قول المسيح في متي 7:17.
لقد جاء نورك, ومجد الرب أشرق عليك; فكنت وستظلين أما ولودة لأجيال وراء أجيال, ليتسلموا ميراث الإيمان الذي حافظت عليه لألفي عام. وسنظل عليه لنسلمه للأبناء والأحفاد حتي اليوم الذي يأتي فيه الرب ثانية – يا ليته يأتي سريعا- ليأخذنا ككنيسة معا لنكون معه كل حين.
بينما كنت أراقب الآباء الأساقفة, يقودهم الجليل الأنبا باخوميوس, شعرت بالانبهار والفخر المسيحي.. وكان قلبي يخفق مرددا ##آمين## مع المرتلين عندما تقدم كل منهم ليضع الصليب علي ملابس الكهنوت للبابا الجديد, وهو يمجد إلهنا لأجل اختياره قائلا: مبارك الابن يسوع المسيح ربنا! قالوها بعدة لغات, وفي كل مرة كنت أشعر بالمزيد من الرهبة التي ملأت الكاتدرائية, وغمرت القلوب التي تعلقت بكل لحظة من الحدث.
لا شك أن روح الاتضاع والمحبة التي سادت الموقف بأكمله استمدت جذورها من فكر المسيح الذي عبر عنه الروح القدس بكلمات الرسول بولس في رسالة فيلبي الأصحاح الثاني: … إن كانت هناك مشاركة في الروح فعبروا عنها بالحنان والرأفة; لأن الفرح يكمل عندما يكون المؤمنون بالمسيح علي رأي واحد, ومحبة واحدة, وقلب واحد, وفكر واحد.. بدون تحزب أو صراع علي السلطة, بلا تباه أو افتخار, بل بتواضع, مقدمين الآخرين في الكرامة, كل واحد علي نفسه. فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضا… (قراءة شخصية للأعداد 1- 5.. الأعداد التالية أروع مما يمكن أن يعبر عنها.)
البابا شنودة.. الغائب الحاضر, الذي علي مثال النبي موسي أعد وتلمذ في سنوات رعويته جيلا رائعا من رجال الله الذين يحملون مسئولية الكنيسة, الذين من بينهم اختير البابا تواضروس; فترك الكنيسة في وضع يمكن أن تستمر معه خدمتها ورسالتها الممتدة حتي بعد غيابه بالجسد عنها.. وهكذا يدوم الثمر.
البابا تواضروس الثاني نجم عكس بانسحاقه ودموع اتضاعه نور شمس البر, فسطع علي قلوب عانقته بتلقائية وفرح لا ينطق به من لحظة اقترابه من بوابة الكنيسة حتي جلس علي كرسي الرسولية.. في كل مرة رأيت الدموع تلمع في عينيه لم يخطر في بالي سوي حديث الله مع يشوع يوم انتقلت إليه عصا القيادة ليقود الشعب في رحلة جهاد الإيمان: لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك. كما كنت مع موسي (الذي قبلك) أكون معك. لا أهملك ولا أتركك… تشدد وتشجع.. لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب. (يشوع 1: 5, 9). ومع تزايد هتاف الجموع, وزغاريد الفرح التي ترددت بين الجدران, شعرت أن ما قاله الرب للشعب وليشوع قبل أن يعبروا نهر الأردن إلي الأرض الجديدة متجسدا بشكل مذهل أمامي: يا أبناء الكنيسة.. تقدسوا لأن الرب يعمل غدا في وسطكم عجائب (يشوع 3: 5). أما أنت يا قداسة البابا يقول لك الرب: اليوم أبتدئ أعظمك في أعين جميع الشعب لكي يعلموا أني كما كنت مع موسي أكون معك. (يشوع 3: 7).
أما الأنبا باخوميوس, ذهبي الفم والقلب, فقد أبهر الجميع بنموذج إيمانه, وحكمته, وتواضعه! فمن يستطيع أن يقول من كل قلبه لتلميذه الذي أصبح رئيسا للأساقفة: سأكون خادما تحت قدميك هذا هو العظيم في ملكوت الله.. لقد سبق الجميع, ووضع مقياسا جديدا وعمليا لما يجب أن يسعي إليه كل قائد كنسي, ومؤمن يحب إلهه. عندما بدأ الأنبا باخوميوس في تلاوة الإعلان الرسمي للمجمع المقدس عن إتمام تجليس البابا, فاجأ الجميع بقوله: أنا باخوميوس الحقير! وربما لم يفهم البعض في البداية معني ما كان يقوله هذا الرجل القدير.. فبكلمة واحدة أعلن أمام العالم أنه لولا نعمة ومعونة الله, وصلوات وصوم المؤمنين, لما استطاع أن ينجز المهمة التي كلف بها بمثل هذه الروعة.. فكان إقراره هذا تاج مجد علي رأسه!
أما المايسترو الفذ: الأنبا بولا, فقد أسمع العالم سيمفونية تنظيم رائعة, بالعزف بمهارة علي أوتار شباب الكشافة; فأخرج عملا رائعا سيسجله التاريخ للكنيسة. وهو الذي لم يذق النوم إلا قليلا منذ أخذ علي عاتقه الإعداد للانتخابات البابوية, ثم القرعة الهيكلية, وأخيرا كل ترتيبات حفل طقس التجليس.. ما أروع ما ذخره الله من إمكانات ومواهب في كنيسته! يا له من نموذج تتحقق به الحكمة القائلة: لا حدود لما يمكن أن ننجزه, مادمنا علي استعداد أن نقبل ألا ينسب فضل إنجازه إلينا!
العناق الذي طال بين الحبيبين, وشريكي الخدمة الرسولية: الأنبا رافائيل والبابا الجديد, فجر طاقة من الفرح والتهليل بين الشعب, وأكد أن القرعة الهيكلية لم تكن نعم فقط للأنبا تواضروس, لكنها في نفس الوقت نعم أخري تثبت الأنبا رافائيل ليثمر حيثما زرعه الله ليخدمه.. مياه كثيرة لا تطفئ المحبة, والسيول لا تغمرها!
كلمة واحدة للأنبا يوسف, أسقف كاليفورنيا, ودينامو حفل التجليس: برافو!
انتهي الحفل, وكنت أتمني أن يطول أكثر, ومثل الرسول بطرس علي جبل التجلي مع الرب يسوع, وموسي وإيليا, كان قلبي يردد: يا رب.. جيد أن نكون ههنا! (متي 17: 4).. لكن كان لابد أن ننزل من الجبل إلي واقع حياة نتطلع فيها إلي مرحلة جديدة من تاريخ شعب الله في مصر, حيث يقودنا البابا تواضروس لنعبر النهر معه إلي تخوم أوسع في حياة الإيمان التي وعد الله بأن يقود شعبه إليها.
www.FocusOnTheFamily.me