من أسبوعين دعيت للحديث في حلقة دراسية مع مجموعة من عائلات إيبارشية أحد مراكز وسط الصعيد. في الطريق إلي هناك كنت مشغولا بما يمكنني أن أشجع به من سألتقي معهم, وكنت أظنهم يعانون قلقا يماثل ما يشعر به كثي
من أسبوعين دعيت للحديث في حلقة دراسية مع مجموعة من عائلات إيبارشية أحد مراكز وسط الصعيد. في الطريق إلي هناك كنت مشغولا بما يمكنني أن أشجع به من سألتقي معهم, وكنت أظنهم يعانون قلقا يماثل ما يشعر به كثير من القاهريين بسبب ضغوط المعيشة الناتجة عن ارتفاع الأسعار, وزحام الشوارع, ومعاناة الحصول علي بعض الضروريات من خبز ووقود, وانقطاع الكهرباء… إلخ, وفوق كل ذلك مخاوف غياب رؤية واضحة لهوية ومستقبل الوطن! لكني فوجئت عند وصولي إلي حيث عقد اللقاء بالروح السائدة بين الناس هناك, والتي فاضت بنوع نادر من السلام الذي أشعر أننا قد افتقدناه مع تواتر أخبار ما يتمخض به الوطن, فيزعجنا كمصريين قبل أن يخيفنا كأقباط.
الحوار مع المجموعة, والنقاش جانبا مع الأفراد لم يخرج عن الرغبة الجارفة لآباء وأمهات في أن يروا أبناء مؤهلين لمستقبل أفضل, لا يذهب بهم بعيدا عن بلادهم, بل يجعلهم مثمرين وناجحين يصنعون فرقا حيثما زرعهم الله! أين المفاجأة في هذا؟ لقد ظننت في البداية أن هذا السلام البادي علي الوجوه ربما يكون نتيجة لعدم متابعة ما يجري من أحداث.. علي سبيل المثال ما نسمعه من أخبار عن كتابة الدستور الجديد بتوجه معين قد يقود البلاد لحالة ##لا تسر عدوا ولا حبيبا##. المفاجأة هنا أنني كنت مخطئا تماما فيما ظننته, فأحاديثنا معا أظهرت أنهم علي علم بكل التحديات التي يواجهها أبناء الوطن عامة, والأقباط خاصة! لكن معرفتهم هذه, والتي قد تفوق ما يعرفه أهل العاصمة فيقلقهم, لم تنزع عنهم سلامهم, ولم تجعلهم متلهفين علي خيار الهجرة, أو السعي لقبول عرض باللجوء المذل لدولة أوربية يجهلون عواقبه! لم يتعرض حوارنا عن أين يمكن أن يعيش الأبناء في المستقبل, بل كان كل التركيز حول كيف يعيشون, ولمن يعيشون!
ولم تتوقف المفاجآت حتي آخر لحظة, فعندما وقفنا لنصلي معا في الختام سمعت أعجب كلمات لصلاة خرجت من قلب يفيض بنعمة الإيمان: ##يارب.. ليتك تختار لكنيستك بطريركا بحسب قلبك!## وهذه طلبة مفهومة ومتوقعة.. لكن ما أدهشني بقية التضرع: ##يارب ليتك تبارك الدكتور مرسي رئيس البلاد!## لم أصدق ما كنت أسمعه.. ##يارب بارك من؟!## شعب الكنيسة القبطي يطلب من الله أن يبارك الرئيس الذي يستقوي عليه كثيرون بالنقد اللاذع عن حق أو غير حق. ومع أنني ممن صوتوا لصالح الدولة المدنية في الانتخابات الرئاسية, إلا أن كلمات تلك الصلاة هزتني من الأعماق, فقد ذكرتني بالوصية الإلهية أن نصلي من أجل كل الذين هم في منصب, ليس فقط لأجل من أعطيناه صوتنا! وعدت إلي بيتي بسؤال يتردد في داخلي: ##من أين لهؤلاء الناس هذا النوع العجيب من السلام؟## لابد أنه السلام الذي أخبر عنه بولس الرسول في رسالته إلي أهل فيلبي: ##لا تهتموا بشئ, بل في كل شئ بالصلاة والدعاء مع الشكر, لتعلم طلباتكم لدي الله. وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ (يحرس) قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع.## (فيلبي 4: 6 و7).
تري هل التمتع بالسلام يتحقق بهذه السهولة: صلاة + شكر = سلام؟ وما علي الواحد منا سوي أن يتبع هذه الخطوات فيتغلب تلقائيا علي قلقه؟ كم من مرة شعرت بالقلق واجتهدت أن أحصل علي السلام بالصلاة, لكن بينما كنت أصلي لم يتوقف عقلي عن التفكير فيما يقلقني.. فألجأ إلي الشكر. وبالرغم من طول قائمة ما أشكر لأجله, لم تنجح هذه المحاولة أيضا في إزالة شعوري بالاضطراب, فأعود للسؤال: ##من أين لي بالسلام الذي يفوق إدراكي, ويجدد شجاعتي, ويهدئ أفكاري, ويقويني لأصدق بالإيمان ما لا أراه بالعيان؟##
ومرة أخري رجعت إلي نص ما جاء في (فيلبي4: 6 و7), وخجلت إذ اكتشفت أنني اعتدت التعامل مع هذا النص وكأنه ##روشتة## طبية أذهب بها إلي ##الأجزخانجي الإلهي## ليصرف لي ما يزيل قلقي, ويهدئ من روعي! ولأول مرة أدركت أن الحديث هنا عن علاقة مع ##رئيس السلام## تقودنا لاختبار سلامه الذي يتخطي كل تصور بشري, وأن الوعد يصبح بلا فعالية إذا اختصرناه ليكون مجرد عريضة مطالبة, نحاجج بها الله ليعطينا ما نريد وكأننا أصحاب حق عليه! أن حديث الرسول هنا عن علاقة وليس عن أسلوب مطالبة, فنصيحته ##لا تهتموا## قد جاءت بعد تصريحه في العدد الخامس: ##الرب قريب!## هذا ما يغير الاتجاه ليصبح التركيز لا علي الكيفية التي نصلي بها, بل علي شخص من نأتي إلي عرش نعمته عندما يهزمنا القلق.. فإذا كنت اليوم تجتاز ضيقا, أو تشعر باضطراب عدم يقينية المستقبل, أؤكد لك أن الذي يصنع الفرق هو معية الله, وليس ما تظنه حلا لمشاكلك, أو تتمناه بفكرك البشري كمخرج من أزمتك.. أن اسمه ##عمانوئيل.. الله معنا!## وهو وحده الطريق إلي الراحة والسلام.
إن السلام والرجاء لا يتحققان في الحياة بدون تواضع! وليس هناك سلاح أفضل من التواضع لنحارب به القلق, لأنه ببساطة يعني قبولنا لحقيقة أننا غير مسيطرين علي الأمور التي تثير قلقنا. عندما نشعر بأنه من المستحيل أن نتحكم في كل ما يبدو مستحيلا في المستقبل, نحتاج أن نتوقف لنفحص أنفسنا ما إذا كان قلقنا نابعا من رغبتنا أن نحمي ممتلكاتنا, أو إنجازاتنا, أو أن اضطرابنا تحركه مخاوف تتعلق بحماية مستقبل أبنائنا.. مثل هذه الدوافع تجعلنا نفسر كلمة الله لتناسب ما نراه الأفضل لنا, بدلا من أن نخضع لمواعيد الله, ونصدق أن عمل قوته الذي كان في حياة آبائنا لن يتوقف في أيامنا, وسيستمر مع أبنائنا.
العلاقة بين التواضع والقلق نجدها واضحة في الحق الكتابي المعلن في رسالة الرسول بطرس: ##تواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه, ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم.## (1بطرس 5: 6 و7).. التواضع المذكور هنا يعني أن نستبدل قلقنا بالثقة في شخص الله وحده. إن المزيد من الاطلاع علي الأمور, والتحقق من صحة ما نسمعه من أخبار لا يجلبان السلام للنفس, أما التواضع أمام الله, بتسليم أمور حياتنا ومستقبلنا له مع كل صباح جديد, فيمتعنا بامتياز أن يهتم هو بنا اليوم, وغدا, وكل يوم.. السلام الداخلي في النفس لا يتحقق باتباع خطوات لوصفة ما, لكنه يفيض داخلنا من خلال علاقة حية مع إله قريب منك ومني.. وليملك في قلوبنا سلام الله حتي نلتقي في المرة القادمة.
سامي يعقوب
www.FocusOnTheFamily.me