فيضان الفرح الذي تدفق في قلوب الملايين التي تابعت القرعة الهيكلية لاختيار البابا الجديد لم يكن نابعا إلا عن حضور إلهي فريد.. حضور تخطي حدود جدران الكاتدرائية المرقسية ليلمس بإحساس من الرهبة أعماق المتابعين
فيضان الفرح الذي تدفق في قلوب الملايين التي تابعت القرعة الهيكلية لاختيار البابا الجديد لم يكن نابعا إلا عن حضور إلهي فريد.. حضور تخطي حدود جدران الكاتدرائية المرقسية ليلمس بإحساس من الرهبة أعماق المتابعين للحدث في أنحاء المسكونة. وبينما كانت عيوننا متعلقة بالصندوق الشفاف, أخذها الأنبا باخوميوس لتنظر إلي فوق, عندما طلب أن يهدأ الجميع لمدة دقيقة, ليرفعوا قلوبهم بالصلاة.. فصنع بهذا لحظة فارقة في تاريخ الكنيسة الحديث, عندما رفعنا بتلقائية عجيبة لنسجد أمام عرش نعمة الله كجسد واحد, قبل أن نتسلم من إلهنا عطيته السماوية لكنيسته الجامعة الرسولية الأنبا تواضروس.. ومعني اسمه: عطية الله, المأخوذ عن الأصل اليوناني ثؤدورس. ما أروع تللك الحظات التي ستظل محفورة في ذاكرتنا, نعود إليها لنجدد ثقتنا في أن رب الكنيسة لن يتخلي عنها, وأن وعده: أبواب الجحيم لن تقوي عليها سيظل فاعلا, كما كان منذ أتي الرسول مرقس إلي الديار المصرية ببشارة الإنجيل.
لم يكن تركيزي علي من سيكون البابا القادم, بل علي الاختيار الإلهي للراعي الذي سيقود شعب الله في هذا الزمن الغريب الذي نعيشه.. ليس فقط بسبب التحديات التي يعانيها وطن يصارع حتي لا تضيع هباء أحلام شبابه التي خرجوا من أجلها إلي الميدان, وقدموا حياتهم ثمنا لتحقيقها.. بل بالأحري من أجل التحديات الأصعب التي أخذت شبابنا بعيدا عن الكنيسة, وإن لم تبعدهم بالجسد فقد أخذتهم بعيدا بالفكر الذي تأثر بفلسفة العالم. لقد تأثر أبناؤنا باتجاهات فكرية معاصرة; فأصبح الحق الكتابي بالنسبة للكثيرين منهم نسبيا. واختلط الأمر علي البعض, فصار الإيمان مجرد فلسفة دينية تدمج أفكارا وممارسات غريبة مع الإيمان الذي تسلمناه من الآباء; ظنا منهم أن هذا يحقق نوعا من الكمال الروحي المودرن.. فتحولت الروحانية لتركز علي الظاهر, دون الاهتمام بالعلاقة الاختبارية مع المسيح في الداخل. من أجل ذلك كان قلبي متعلقا باختيار من يمكن أن يستخدمه الله في تجديد الفكر الكنسي, فيرجع إلي الكنيسة أبناؤها الذين سبتهم الفلسفة والغرور الباطل, فعاشوا بحسب تقاليد ومبادئ العالم, وليس بحسب فكر المسيح (كولوسي 2 : 8). لقد اختار الله رجلا يؤمن بأنه مع المحبة, وبالحكمة والمودة يمكن التعامل مع مشاكل الاحتقان الطائفي مع شركاء الوطن.. وفي نفس الوقت يشهد كل من يعرفه أنه مدقق في فكره, لا يفصل بين العلم والإيمان المسيحي, وأن من أولوياته تجديد أساليب التواصل والتعليم في التربية الكنسية مع الأطفال والشباب.
لقد توحدت مع الكنيسة في الصلاة من أجل أن يختار الله بطريركا بحسب قلبه, ولم يفارق ذهني قول الرب يسوع في يوحنا 15: 16: ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم, وأقمتكم (عينتكم) لتذهبوا (تعطوا أنفسكم لهذه المهمة) وتأتوا بثمر, ويدوم ثمركم, لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي.. وقد أعطانا الآب الآن ما طلبناه منه باسم المسيح, عدت إلي النص مجددا فوجدته يتعامل مباشرة مع خبرة واختبار اختيار البابا.. فهذه الكلمات تؤكد أن الاختيار هنا إلهي, وقد سبق الترشيحات, واستحسان من أدلوا بأصواتهم! فكل الإجراءات التي تمت بحكمة وشفافية غير معتادة في كثير من المجتمعات, لم تكن سوي خطوات عملية تقود للإعلان عن اختيار الله لمن يتسلم عصا الرعاية. ولأن مفهوم العالم عن تقلد السلطة بالانتخاب مرتبط بالصراع, والتربيطات الانتخابية; فقد قدمت الكنيسة شهادة حية رائعة عن الكيفية التي يجب أن ينجز بها المؤمنون بالله عمل الله لكن بأسلوب الله! ولأن الاختيار لموقع المسئولية البابوية هو في واقعه مبادرة إلهية, فهو يعبر أيضا عن نوع من العلاقة الخاصة بين صاحب سلطة الاختيار ومن وقع عليه الاختيار ليعطي نفسه للقيام بالمهمة.. ونجد في العددين 14 و15 ما يؤكد هذا المعني: أنتم أحبائي… لا أعود أسميكم عبيدا… لكني سميتكم أحباء….
أما الوعد بأن يدوم ثمركم فيلقي بالضوء علي نموذج قيادة الأنبا باخوميوس للكنيسة في المرحلة الانتقالية.. فكلمة الثمر المذكورة في نص إنجيل يوحنا هي نفسها التي استخدمها الرسول بولس في وصف ثمر الروح: ##محبة فرح سلام, طول أناة لطف صلاح, إيمان وداعة تعفف (غلاطية 5: 22 و23).. لقد شهد الجميع بأن المحبة قد تمكنت في الكنيسة في وقت كان يمكن للكراهية أن تفسد العلاقات, وفاض الفرح في القلوب فور إعلان نتيجة القرعة, مع أن العادة في العالم أن يغضب ويحزن من لم تأت النتيجة بما تمنوه.. ألم نشعر جميعا بالسلام الإلهي ونحن نتابع الأنبا باخوميوس وهو يرفع اسم من أتي به الله ليحمل هذه المسئولية المقدسة؟ هل لاحظتم, مثلي, إعلان روح المسيح في طول أناة الأنبا باخوميوس, ووداعته, وإيمانه؟ إن الثمر يدوم عندما يترجم عمليا في حياة ومواقف أبناء الله, وبهذا فقط نثبت فيه فنأتي بثمر أكثر (يوحنا 15: 4).
لقد امتدحت الصحف المحلية والعالمية الطريقة التي سارت بها الانتخابات البابوية, في الوقت الذي كان فيه العالم يتابع السباق المحموم لانتخابات الرئاسة الأمريكية.. وعندما قرأت تصريح البابا الجديد: سأكون خادما للشعب بمسلميه ومسيحييه تذكرت قول المسيح: أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم, والعظماء يتسلطون عليهم.. فلا يكون هذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيما فليكن لكم خادما (متي 20 : 25 و26). كذلك فرحت بتصريح الأنبا باخوميوس الحاسم: كنيسة بلا صلاة كنيسة بلا هدف! لأني شعرت أن هذا التصريح بمثابة إعلان إيمان كنسي جاء مع بداية مرحلة رعوية جديدة لابد أن تربط بين التعليم الذي ازدهر في أيام الرعوية السابقة, والصلاة التي لا تضع أهدافا للكنيسة فقط, بل لأمة بأكملها إذا فقدت الرؤية للمستقبل هلكت! وإلي حديث شخصي إلي قداسة البابا الجديد في لقاء المرة القادمة.
www.FocusOnTheFamily.ME