عنوان هذا المقال مشتق من عبارة قالها قداسة البابا تواضروس في إحدي عظاته الأسبوعية, وجاءت علي النحو الآتي:إن العنف لا يجلب سوي العنف بل عنف أكبر, ومع تصاعد العنف يضيع معني الإنسانية, وحينما أتابع الأخبار القادمة من غزة أتساءل:أين ذهبت الإنسانية؟. ومعزي سؤال البابا يكمن في التناقض الحاد بين العنف والإنسانية إلي الحد الذي عنده تضيع الإنسانية, والسؤال إذن: ما هي هذه الإنسانية الضائعة؟ تاريخيا يمكن القول إن الإنسانية حركة نشأت في القرن الخامس مع سقراط وزملائه من السوفسطائيين الذين أنزلوا الفلسفة من السماء إلي الأرض, وقيل أيضا إن الإنسانية علي علاقة عضوية مع عصر النهضة الذي كانت فكرته المحورية الإنسان الذي ينشغل بالتحكم في الطبيعة, وعندئد قيل عن الإنسانية إنها ذات سمة علمية قادرة علي الإجابة عن أي سؤال خاص بالإنسان بوجه عام وبعلاقة الإنسان بالعنف بوجه خاص, والذي يعنيني في هذا المقال وفي سياق عظة قداسة البابا تواضروس العلاقة بين الإنسان والعنف, وهنا يلزم التنويه بالمؤتمر الرابع الذي عقدته المجموعة الأوروبية العربية للبحوث الاجتماعية في روما في عام 1981 تحت عنوانالشباب والعنف والدين, وفي سياق هذا المؤتمر لفت انتباهي العنف الذي شاع في الجامعات وفي مقدمتها جامعة بركلي في سان فرنسيسكو عام 1964 ثم جامعة شيكاغو وجامعة السوربون, وفي البلدان الإسلامية ثار الطلاب المنتمون إلي الجامعات الإسلامة ضد الشرور الواردة من المجتمعات الغربية, والتي اعتبرتها هذه الجامعات أنها معادلة لشرور المجتمع الجاهلي. في حالة العنف الخاص بالجامعات الغربية قيل عنه إنه مرادف للإرهاب لأنه دون نظرية علمية وفي حالة العنف الخاص بالبلدان الإسلامية قيل أيضا إنه مرادف للإرهاب لأنه ينتمي إلي ما أطلقت عليهالأصولية الإسلامية التي تدعو إلي رفض إعمال العقل في النص الديني, والمغزي في الحالتين أنه ضياع للعقل.
وإذا العقل ضاع ضاعت الإنسانية
لأن ما يميز الإنسان أنه حيوان عاقل. ومن هنا يلزم تحديدمعني العقل, وهو في رأيي أنه عقل مبدع بحكم العلاقة العضوية بين العقل وإبداع الحضارة الإنسانية في انتقالها من حارة البداوة إلي الحضارة الزراعية التي أدت إلي فائض طعام بديلا عن أزمة الطعام التي أدت إلي هجرة الحيوان ومعه الإنسان إلي وديان الأنهار في مصر وأشور والهند والصين, وفي سياق هذه الأنهار نشأت الحضارة , ومن هنا يمكن القول إن ضياع الإنسانية معناها ضياع الحضارة وبالتالي ضياع العقل المبدع, ومن هنا أيضا يمكن القول إن نهاية المطاف في تساؤل قداسة البابا تواضروس كامن في ضرورة البحث عن صياع الإنسانية في ضياع العقل المبدع, وقد يقال في مواجهة هذا الضياع إنه يفضي إلي المحافظة علي التراث, وإذا كان ذلك كذلك فيلزم إثارة السؤال الآتي: ما هو التراث؟إنه رمز علي الماضي ولكن الماضي بدوره رمز علي المستقبل لأنه مستقبل فات, وبالتالي فإنه يحرضنا علي البحث عن مستقبل آت, والمغزي أن المعضلة كامنة في العلاقة بين ما هو فات وما هو آت.