يتصدر كتاب مذكرات نجيب الريحاني مقدمة كتبها بنفسه قبل صدور الكتاب بعشرات الأعوام والتي قرر فيها أن يكون صريحا كما تعود علي نفسه وتعود عليه الآخرون حتي لو لام عليه الناس, حيث إنه يري أنه يسجل تاريخ الفن في بلاده حتي إذا غادر الدنيا يكون مستريح الضمير, ناعم البال, ويدلل الريحاني علي مصداقيته قائلا: إنني في مذكراتي هذه تناولت الكثيرين بما قد لا يرضيهم ولكن أحدا لا يستطيع أن يناقضني في حرف واحد مما أثبت هنا لأنه إن حاول أن يفعل وقفت الحقائق حائلا بينه وبين ما يريد. والذي يؤكد صراحة الريحاني أيضا الكاتب بديع خيري في تقديمه للكتاب, حيث قال: إن الريحاني في مذكراته أعطي كل نقطة حقها بصراحته المحبوبة وأسلوبه الشيق ومن بين صفحات مذكراته برزت حياته الحافلة التي كرسها كالمسرح وحده وبرزت صور الكفاح حية نابضة بالحياة, ويري الأستاذ بديع خيري نجيبا في أربع صور وهي: الصورة الأولي الريحاني لم يكن مجرد ممثل يكسب قوت يومه من مهنة التمثيل بل كان فيلسوفا, وفنانا أصيلا عاش لفنه فقط ولقي الاضطهاد والحرمان وشظف العيش في سبيل مثله العليا.
أما الصورة الثانية هي صورة الريحاني الممثل الكوميدي الذي أجبره الجمهور إجبارا علي السير في الاتجاه الكوميدي برغم حبه وعشقه للدراما, فقد كان علي قدر مرحه وفكاهته يعاوده الحزن في فترات متقطعة لمأساة أصغر إخوته جورج الريحاني الذي اختفي قبل موته بسنوات طويلة لغير سبب وظل اختفاؤه لغزا غامضا لا يعلمه أحد, أما الصورة الثالثة للريحاني هي صورة الوطني الثائر الذي جعل من المسرح منبرا للوطنية الرجل الذي عالج السياسة بالفكاهة وفتح عيون الجماهير إلي سوء حالها وهاجم الإنجليز وأعوانهم في مسرحياته وتهكم عليهم فلقي اضطهادا وغضب السرايا. أما الصورة الرابعة هي صورة الريحاني الإنسان الوفي لأصدقائه وأبناء مهنته, حيث كان يقيم لهم الحفلات الذي كان كريما لدرجة لا توصف والذي كان يطهي لهم ألوانا مختلفة من الطعام بنفسه.
والحياة لا تسير علي وتيرة واحدة عند الريحاني, فأحيانا يعاني من قلة المال وأحيانا أخري لا يستطيع صرفه من كثرة الأموال المتدفقة ويرجع ثانية إلي الفقر. هكذا هو الريحاني وهكذا هي الحياة وكما تنبأت له زوجة المنوم المغناطيسي التي وصفت حياته في المستقبل بدقة وتنبأت عما سيحدث له في المستقبل وأقرت له أن حياته عبارة عن ضجة صاخبة وأن أموالا كثيرة ستتداولها يده وسينتقل من فقر إلي غني ومن غني إلي فقر ثم يعود الغني, والغريب أن الريحاني كان مقتنعا ومؤمنا.
ويقول نجيب الريحاني: أسعد يوم من أيامه هو اليوم الذي كانت والدته في عربة المترو عائدة إلي المنزل في مصر الجديدة فسمعت رهطا من الركاب يتذاكرون شئونا فنية ورد أثناؤها اسمي وأصغت دون أن تشعرهم ومن أشد دهشتها حين سمعتهم مجمعين علي الثناء علي وامتداح عملي والإشادة بمجهودي… كانت والدة الريحاني تحتقر التمثيل وتكرهه ولكن ما حدث أنها وقعت وسط عربة المترو وقالت بأعلي صوت الراجل إللي بيتكلموا عنه ده يبقي ابني أنا والدة نجيب الريحاني الممثل.
عزيزي القارئ أدعوك لقراءة مذكرات الريحاني الممتلئة بالأحداث الجميلة والمثيرة والمكتوبة بشكل شيق وراقي ولغة أدبية جميلة فلو لم يكن الريحاني ممثلا لكان فيلسوفا أو كاتبا مبدعا أو مفكرا, حيث إن اللغة راقية جدا لديه وعميقة ومؤثرة فيجعلك عندما يكتب عن الفقر تعيشه معه وتلعنه وعندما يكتب عن الفرح تكون معزوما فيه وعندما يكتب عن التعاسة يحيط بك الاكتئاب من جميع جهاته.