تزخر السينما المصرية عبر تاريخها الطويل بعشرات الأفلام التي تحمل قيما فنية ورؤي فكرية تستحق إعادة التقييم في محاولة لتلمس مواطن القوة والتجديد والابتكار والاجتهاد. السينما تملك رصيدا من الأعمال نجح بعضها في اختراق حاجز الصمت وطفا علي وجه التاريخ معلنا ريادته وأهميته الفنية أو الفكرية.
وهناك أعمال أخري مازالت ترزح تحت وطأة التجاهل والإهمال ويعلوها غبار الزمن, وتحتاج إلي إعادة التأمل من خلال دراسة موضوعية, وهذا ما فعله الناقد الكبير علي أبو شادي في كتابه خمسون فيلما من كلاسيكيات السينما المصرية. حيث وضع بعض هذه الأعمال في سياقها التاريخي وحاول تقييم الجوانب الفنية فيها بعناصرها المختلفة كلغة سينمائية ولا سيما أن معظم العمليات السينمائية من تصوير ومونتاج وإخراج بالإضافة إلي عناصر الديكور والموسيقي أفرزت أسماء تصل بعضها إلي مصاف أقرانها من فناني السينما العالمية.
إن نظرة متأنية ومراجعة دقيقة لإنتاج السينما المصرية الروائية منذ عام 1927 حتي الآن تكشف عن تلك الأعمال التي تمثل بما تحمله من قيم ومحطات رئيسية في تطور الصناعة السينمائية كحرفة وثراء رؤية فنانيها للواقع وقدراتهم المختلفة والمميزة في التعبير عنها وتنوع اتجاهات هذه الأعمال بحيث تشكل قيمة رفيعة المستوي من السينمائيين سواء في مصر أو العالم العربي.
إن ريادة فيلم لاشين لفريتز كرامب وجرأته علي اقتحام منطقة ملغومة بتبنيه لثورة الجماهير ضد الظلم والفساد, وما انتهجه كمال سليم في العزيمة بتصويره للحارة المصرية لأول مرة في تاريخ هذه السينما, وتطوير كامل التلمساني لواقعية كمال سليم في السوق السوداء لتجد في أعمال صلاح أبو سيف ترسيخا لمفهوم الواقعية التي يحاول شباب في مصر تجاوزها من خلال بعض أعمال محمد خان وعلي بدرخان وعاطف الطيب وخيري بشارة ورأفت الميهي وداود عبد السيد ويسري نصر الله ورضوان الكاشف مستفيدين من لغة يوسف شاهين المتجددة مستلهمين رصانة واتزان بركات واعتدال ودقة كمال الشيخ وعذوبة ورقة عز الدين ذو الفقار ونفاذ بصيرة توفيق صالح وجديته وجلاء رؤيته.
يدور المحور الأول من الكتاب حول فيلم لاشين إنتاج 1938 (ستوديو مصر) إخراج (فريتز كرامب) والذي يعد أول فيلم مصري تتم مصادرته ومنعه من العرض في ذات اليوم الذي تقرر فيه عرضه جماهيريا الخميس 17 مارس 1938 في سابقة تاريخية لم تحدث في مصر قبل لاشين أو بعده وحتي الآن.
أوقف الفيلم وذكرت مجلة المصور في 25 مارس 1938 أن الفيلم تأجل عرضه بعد أن كان من المؤكد أن يعرض في سينما ديانا حتي مساء الأربعاء. ولكن في يوم الخميس نفسه أعلن ستوديو مصر أن الفيلم سيتأخر عن موعده وذلك لمراعاة المصلحة العامة وتفضيلها علي المصلحة الخاصة. وتهامس الناس أن لاشين قد منع ولكن الذي حدث أن الفيلم لم يمنع وإنما تأجل عرضه إلي ما بعد الانتخابات.
ويحكي سيناريو لاشين عن القائد الشجاع النزيه لاشين قائد جيوش سلطان مصر في القرن الثالث عشر الذي عاد إلي الوطن بعد انتصاره علي الأعداء مقدما لسلطانه رأس قائد الأعداء وقلنسوته وجارية حسناء تحظي باهتمام السلطان الذي يتحول إلي تعلق شديد يقابل بجفاء وبرود من جانبها مما يزيد من ولعه وتمسكه بها… ويصور السيناريو أيضا الجانب الآخر من مراكز القوي في السلطنة ممثلا في الوزير أو القائد كنجر الخائن المتعاون مع الأعداء المغول والذي يعد مؤامرة للإطاحة بالسلطان واستقدام المغول لمساعدته علي تولي العرش. وفي مستوي آخر يقدم جماهير الشعب في حياتهم اليومية يمارسون البيع والشراء ويستعدون لاستقبال قائدهم المحبوب, ووسط ذلك الفرح تأتي صيحة العالم باتاني الذي يعلن للكافة تحذيره مما سيحيق بأهل مصر ذلك بأن المطر مش هاينزل عند المنبع, النهر مش هيفيض, الترع هتنشف, الأرض حتجف, الزرع حيموت… إن ماكنتوش هتعملوا حسابكم, حتجوعوا حتندموا,حتقعوا في الخطر, أنا كنت هناك عند المنبع وعارف كل شئ.
أخيرا نجح المخرج كرامب في إدارة ممثليه رغم أن البطل والبطلة كانا يؤديان لأول مرة أدوارهما في السينما. وكان الحوار لأحمد رامي رائعا ومتدفقا حيث استخدم لغة راقية تميزت بالبساطة ومزج العامية بالفصحي في سلاسة. إن فيلم لاشين يستحق مكانة كبيرة كواحد من كلاسيكيات السينما المصرية.