نشرت وطني في عددها الماضي حوارا مع خالد البلشي, نقيب الصحفيين, تضمن مواجهة صريحة وشجاعة مع بعض ما يواجه مهنة الصحافة من تحديات, ولم يخل من تقييم الواقع وطرح الرؤي نحو استكشاف سبل التغيير… فكان من أهم ما طرحه خالد البلشي, عزمه علي عقد مؤتمر عام مطلع العام القادم لمناقشة مهنة الصحافة وما يعتريها من مشاكل, علاوة علي مؤتمر اقتصادي لمناقشة صناعة الصحافة وخاصة الورقية.
وإذا كنت هنا أتحدث عن وطني وما تواجهه من تحديات, أجدني لا أتوقف كثيرا عند الجانب المهني من الصحافة وما قد يعتريه من مشاكل لدي منابر صحفية زميلة.. فما يخص مساحة حرية التعبير تعالجه وطني دوما بالتزامها المهني بعدم تجاوز حدود التدقيق والمصداقية والتمسك بأخلاقيات الحوار والاختلاف بعيدا عن الحروب الكلامية… وما يخص تأمين عمل أعضاء أسرة وطني تم إدراكه منذ سنوات طويلة بقرارات صارمة تفصل تماما بين عمل الصحفي وبين حساب الأرباح والخسائر للمؤسسة.
لكن يبقي بعد ذلك كله التحدي الاقتصادي لمستقبل صناعة الصحافة وخاصة الورقية فيها, وهو الأمر الذي أقف إزاءه متطلعا إلي ما يمكن أن يفضي إليه مؤتمر اقتصادي تنظمه نقابة الصحفيين في هذا الإطار… فالواقع يؤكد أنه في ظل تنامي تكاليف الورق وسائر مستلزمات الطباعة ستظل أعباء تمويل الصحافة الورقية في ازدياد, وبالأخذ في الاعتبار انكماش وتدني موارد المؤسسات الصحفية التي يقصرها المجلس الوطني لتنظيم الإعلام علي إيرادات الإعلانات وإيرادات التوزيع – ولا يسمح بغيرها- يمكننا أن نتبين اتساع الفجوة بين الموارد والتكاليف الأمر الذي يضع مستقبل الصحافة المطبوعة علي المحك.
وبالرغم من انتمائي إلي ما أستطيع أن أصفه بآخر جيل لقراء الصحافة الورقية, إلا أنني أنظر بواقعية لحقيقة حتمية انحسار الصحافة الورقية وسيادة الصحافة الرقمية أو الإلكترونية.. وهذا واقع يجب الاعتراف به بغض النظر عن حسابات الموارد والتكاليف التي تعرضت لها, فهو واقع مرتبط بعصر جديد يأتي بأدوات جديدة وتكنولوجيا جديدة لتداول المعلومات وسرعة رصد وتتبع وتوثيق الأحداث.. ولا أدل علي ذلك من تطبيق قانون السوق الذي ينظم العلاقة بين السلعة والمستهلك, ففي حالتنا نشهد عزوف المستهلك -وهو جيل أبنائنا ومن بعدهم أحفادنا- عن الصحيفة المطبوعة, وانتقالهم إلي الصحافة الإلكترونية ومعها سائر وسائل التواصل الرقمي.
فإذا أردنا أن نؤمن لهم منابر إعلامية تتسق مع أدوات الحاضر والمستقبل فلا يجب أن نعاند أنفسنا ونزعم أن الصحافة المطبوعة لا غني عنها أو أنها حتما لن تتراجع أو تندثر, لأن في هذا كبرياء وتنكرا لشروق عصر جديد للمعلومات وللإعلام, ومقاومة لا جدوي منها إزاء حتمية تسليم جيل يأفل باحتياجات جيل يبزغ… وفي هذ السياق أقول لمنابر الصحافة المطبوعة كافة: من يريد أن يحجز لنفسه مكانا في صحافة الغد, عليه أن يعد نفسه جيدا لامتلاك أدوات الصحافة الإلكترونية وجذب قرائه ومتابعيه نحوها وإعدادهم وتأهيلهم للاستعاضة عن الصحافة الورقية بها… ولعل من الآليات المشجعة في هذا الإطار ما تقوم به معظم المواقع الإلكترونية التابعة لصحف مطبوعة بأن تقدم ملفا يشار إليه PDF يتضمن جميع صفحات الصحيفة المطبوعة بنفس سياقها وأبوابها ومحتواها بما أتصوره يلبي احتياج جيلي من قراء الصحيفة المطبوعة والذين لم يألفوا بعد التشريح الإلكتروني للموقع الإعلامي… وأنا أدرك أن هذا الملف سيؤدي دوره الحتمي في اتجاه الحفاظ علي جيل يمضي وسوف يختفي في الوقت المناسب ليفسح المجال لسائر ملفات الإعلام الإلكتروني كما يتفهمها جيل يأتي.
إذا… التغيير قادم لا محالة… ومقاومة هذا التغيير لا جدوي منها… لكن تظل القضية المصيرية والتحدي الماثل أمام كل من نقابة الصحفيين والمجلس القومي لتنظيم الإعلام هي: ما العمل إزاء خسائر المؤسسات الصحفية والتي سوف ترثها حتي لو تحولت إلي مؤسسات إعلامية إلكترونية؟… كيف نعمل علي تأمين موارد كافية متجددة لتحويل نشاطها بعيدا عن التصدق عليها في صورة بدل الصحفيين الذي يضعهم تحت رحمة عطف الدولة؟!!… كيف نؤمن مصادر إيراد مستقلة لنقابة الصحفيين مع مصادر دعم قانونية للمجلس الأعلي لتنظيم الإعلام, تتيح الكرامة والاستقلال للمنابر الإعلامية الرقمية لصحافة الغد؟