ما أريد أن يعرفه العالم عن أمي هو التعريف الذي أضافه الكاتب والصحفي مصطفي فتحي, إلي عنوان كتابه الرائع شال قطيفة, والذي صدرت طبعته الثالثة منذ أيام. هذا الكتاب هو نموذج رائع لاحتفاء إنسان بسيرة أمه, وهو مثال رائع لتقدير الأم والامتنان لها يستحق الاحتفاء به ونحن نحتفل بعيد الأم المصرية.
عبر عدد صفحات لا يتجاوز المائة, استطاع فتحي أن يعبر عن حبه الأصيل لوالدته التي رحلت منذ أربع سنوات, ليس من خلال رثائها أو سرد وقائع حزنه, وإنما من خلال تخليد سيرتها كأم تتفهم جيدا معني ومفهوم ودور الأمومة بفطرة خالصة.
عبر أول فصول الكتاب, يعد فتحي بأنه لن يكون كتابا عن الألم, وقد أوفي بوعده حقا, فبرغم أنه في الفصول الأخيرة سرد التفاصيل المؤلمة لملابسات الرحيل, لكنه أعقب ذلك بالطريقة التي تعايش فيها مع الحزن, ثم سبيله للخروج من الاكتئاب الذي أصابه واستعان للتغلب عليه بالعلاج النفسي بناء علي نصيحة صديقه, وكذلك ذكر عناوين الكتب التي ساعدته في تجاوز تلك المحنة, أي أنه تعامل بشكل عملي وواقعي وعلمي مع آلام رحيل الأم وما يسببه من حزن مقيم, وساعدته مرونته في تقبل آراء الآخرين وقدرته علي التأقلم ومرونته وكذلك شجاعته في أن يتجاوز ذلك, بل أن يحوله لتجربة تستحق أن تسرد ليستفيد منها الآخرون.
الكتابة الصحفية تغلب علي أسلوب السرد لدي مصطفي لكن التعبيرات البلاغية لا تغيب عنها, ومن الواضح أنه أراد تدوين كل ما يتذكره عن أمه كي يكتب لهذه الإنسانة العظيمة الخلود, وهو ما نجح فيه بالفعل, والأكثر من ذلك, أنه وخلال تلك الرحلة قدم لنا نموذجا مدهشا لأم حقيقية!.
الحاجة رابحة والدة مصطفي, سيدة صعيدية بسيطة لم تتلق أي قدر من التعليم, لكنها كغيرها من نساء الصعيد حملت معها وعيا تراكم عبر آلاف السنين, وترجمته ليس في طريقة تربية أبنائها, ودعم زوجها, وإدارة شئون بيتها وحسب, وإنما أيضا من خلال لغتها العفوية البسيطة الراقية المطعمة بالأمثال الشعبية المصرية العريقة, والتي أضافت إليها الحاجة رابحة لمستها الخاصة, والمدهش هنا هو سعي فتحي لتوثيق الأمثال التي اعتادت أمه ترديدها, وشرح المواقف التي كانت ترددها فيها, ليعكس حكمة لا يحتاج الحصول عليها إلي الذهاب للمدرسة, وإنما لذهن متقد وحس عال وذائقة إنسانية عالية تتفاعل مع خبرات الحياة, فتستوعبها وتطور من نفسها.
الحاجة رابحة أم شال قطيفة, هي حكاية رائعة لسيدة مصرية, نموذج للزوجة المحبة الداعمة, وللأم القوية بالفطرة, رحلتها هي توثيق ليس فقط لحياتها الخاصة, وإنما للنموذج الحقيقي للمرأة المصرية بعيدا عن الادعاء والتكلف بل والتشويه, خبرت الحياة وتقبلت صدماتها, أحبت تفاصيلها البسيطة, رعت أسرتها كبيرة العدد وربت أبناء متحابين ومتكاتفين, ساندت زوجها لينجح في حياته المهنية, كل ذلك دون أن تقلل من حبها لنفسها ولحياتها, بل أنها امتلكت حسا رائعا بالطبيعة وحولت بيتها البسيط إلي جنتها الخاصة, وامتلكت لغة التواصل مع الطيور والزرع, وأحبت الله ووثقت به دون أي تطرف, وطوال رحلة أسرتها المكافحة لم تتنازل هي عن طموحها بحياة تتمتع فيها بالفنون وبأدوات المنزل العصرية.
أراد مصطفي فتحي في كتابه شال قطيفة أن يوثق حياة أمه, ويعبر عن حبه لها, ويتجاوز أزمة حزنه لرحيلها, لكنه في الوقت نفسه قدم لنا تجربة شجاعة في مواجهة الألم والفقد والأزمة النفسية, وأعلن امتنانه لطبيبه النفسي ولأصدقائه الداعمين في تلك الفترة, سرد سيرة الحب الخاصة بأمه لكنه دون أن يدري رسخ قيم الامتنان الحقيقي والعميق والواعي بشكل عملي, وأيضا قصة حياة امرأة بسيطة لدرجة العظمة.
شال قطيفة هو كتاب يحتفي بالأم.. كل أم, ويعطي دروسا في الأمومة وفي الاحتفاء بها, كتاب يقدم الحضور الطاغي للأمومة في أقوي صورة, ويؤكد علي أن البساطة لا تزال تجد لنفسها مكانا في هذا العالم, بساطة واعية عميقة وعصرية وإنسانية لأقصي درجة.
شكرا مصطفي فتحي علي إصرارك علي تخليد ذكري أمك/ معني الأمومة, وشكرا للحاجة رابحة التي أحسنت تنشئة ابن مثلك.