أكتب هذا المقال وسط أجواء ملتهبة وأنفاس محتبسة تسيطر علي العالم في متابعة تطورات وتداعيات سباق انتخابات الرئاسة الأمريكية. ولست أدري عند نشر هذا المقال ووصوله إلي القراء هل سيكون السباق قد حسم أم ليس بعد, ولكني حريص علي التعبير عما يجول بخاطري حول هذا السباق بغض النظر عمن سيفوز به -الرئيس دونالد ترامب أو المرشح جو بايدن- ومن ستكون له الغلبة: الحزب الجمهوري أم الحزب الديمقراطي… وبالرغم من أن فرص ترامب في الفوز بفترة رئاسة ثانية تبدو وقت كتابة هذا المقال منكمشة في مقابل فرصة واعدة أمام بايدن لإقصاء ترامب عن البيت الأبيض والفوز بالرئاسة, إلا أن ما سأسرده هنا لا علاقة له بالفائز أو الخاسر لأنه يتعرض لجوهر التجربة الديمقراطية وقدرتها علي التدوير السلمي للسلطة, تلك السمة التي طالما تغنينا بها إزاء الديمقراطية الأمريكية… لكن ما بالها تتهاوي وتترنح وتتصدع في الانتخابات التي نحن بصددها!!
وحتي لا يعتقد أحد أني أبالغ في قولي هذا, دعوني أستدعي ما كتبه واحد من أعمق وأشهر المحللين السياسيين الأمريكيين في وصفه للتردي الذي وصل إليه سباق انتخابات الرئاسة وما يشوبه من احتدام الصراع وإطلاق الاتهامات بالتزوير وشحن الناخبين وتشجيعهم علي التمرد والعصيان واللجوء للعنف احتجاجا علي الخسارة.. إنه توماس فريدمان الذي كتب في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 5 نوفمبر بعد يومين من بدء سباق الانتخابات: لانزال لا نعرف من الفائز في الانتخابات الرئاسية, لكننا نعلم الخاسر.. إنها الولايات المتحدة الأمريكية.
نعم.. إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي طالما خاضت تجربة الانتخابات الرئاسية بكل سلاسة ويسر -علي الأقل في العصر الحديث منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ووصول الرئيس دوايت أيزنهاور للرئاسة… فكل المنافسات الانتخابية التي عاصرناها لم تكن تخلو من السخونة والتباينات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها في رؤي وبرامج ووعود المرشحين -جمهوريين أو ديمقراطيين- لكنها جميعها اشتركت في احترام المتنافسين لآليات الانتخابات ومنظومة رصد وحصر وعد الأصوات وإعلان النتائج وانصياع الجميع للنتيجة النهائية ومبادرة الخاسر بتهنئة الفائز وبتهدئة أنصاره ودعوتهم للاصطفاف كأمة واحدة موحدة خلف الرئيس الجديد الفائز احتراما للتجربة الديمقراطية وتوجها نحو مرحلة جديدة تعكس إرادة الأغلبية.
لكن مابالنا في الانتخابات الرئاسية التي نحن بصددها نعايش تهاوي وانهيار هذه التقاليد الراسخة؟… وهذا السيناريو لم يكن وليد شهر الانتخابات إنما دأبنا خلال الأشهر الثلاثة السابقة علي الانتخابات وهي التي شهدت مسار تسمية مرشح الحزب الديمقراطي الذي سينافس الرئيس ترامب علي منصب الرئاسة.. دأبنا علي تلقي تصريحات عدائية من ترامب خلال جولاته وحملاته الانتخابية لا يتورع فيها عن الإشارة إلي أنه إذا خسر الانتخابات فذلك سيكون ناجما عن تزويرها والتلاعب بالأصوات (!!!)… وهو الأمر غير المسبوق في سباقات الرئاسة الأمريكية… ثم عايشنا الروح العدائية الصدامية الكريهة التي انتهجها ترامب في المناظرة الأولي التي جمعته بمنافسه بايدن والتي اتسمت بالمقاطعة المستمرة والعنف اللفظي والخروج عن تقاليد وآداب الحوار. -بدأها ترامب وللأسف استدرج فيها بايدن- ثم يستمر ترامب في توجيه الاتهامات بتزوير الانتخابات سلفا قبل أن تبدأ وشحن أنصاره بدرجة خطيرة جعلت الكثيرين -وأنا منهم- يتوجسون مما قد يحدث أثناء الانتخابات من مواجهات لا تحمد عقباها بين أنصاره وأنصار منافسه بايدن.
وهذا بالفعل ما حدث وما نشاهده في النشرات الإخبارية المصورة المواكبة للانتخابات وما أعقبها من فترات عد الأصوات خاصة في الولايات المرجحة طبقا لنظام تصويت المجمع الانتخابي الأمريكي… فلأول مرة نشاهد الحشود من المواطنين الأمريكيين من أنصار ترامب بعدما جري شحنهم بدعوي تزوير النتائج لصالح بايدن -وبدون أي دليل بشهادة حكام الولايات ومراقبي الانتخابات والمحللين وحتي بعض أقطاب الحزب الجمهوري- نشاهد تلك الحشود تفقد صوابها وتشتبك في أعمال عنف مع أنصار بايدن, الأمر الذي دعا لاستدعاء قوات الأمن للفصل بينهما وللسيطرة علي الأوضاع… أما ترامب فوسط مؤشرات الخسارة التي تحاصره لم يستشعر المسئولية الخطيرة التي يتحملها كرئيس عليه أن يعطي النموذج لأنصاره وعليه أن يقودهم نحو وحدة الأمة بل استمر في كيل الاتهامات بأن الرئاسة سرقت منه بفعل التزوير وأن فريقه لن يسكت وأن علي أنصاره ألا يسكتوا!!!… كما استمر في خيالاته المريضة من اتهام وسائل الإعلام بمعاداته وأن كل من يتحدث عن نتائج إيجابية حققها بايدن هو عدو له يتآمر علي اغتصاب فوز مستحق له بالرئاسة!!!
وكان من المخجل أن تضطر بعض الفضائيات إزاء ذلك العبث أن تستدعي للمشاهد نماذج من ردود أفعال كريمة وحكيمة لمن سبق لهم أن خسروا سباقات الرئاسة الأمريكية مثل الرئيس جورج بوش الأب, والمرشح السيناتور جون ماكين, والمرشحة هيلاري كلينتون, وكلهم اعترفوا بوطنية وكرامة بخسارتهم داعين أنصارهم لقبول النتيجة والتوحد خلف الرئيس المنتخب لصالح الأمة الأمريكية.
أعود وأكرر ما بدأت به هذا المقال.. لست أعرف ماذا سيتمخض عنه سباق الرئاسة الذي نحن بصدده, لكن أيا كان الفائز فيه: ترامب أو بايدن فإن التاريخ لن يغفر لترامب سلوكياته الحمقاء غير المسئولة التي دلت علي أنه لا يتورع عن التضحية ببلده وشعبه في سبيل أطماعه في السلطة, وهو ما وصفته ماري ترامب ابنة شقيقه بقولها: إن ما يقوم به ترامب أشبه بمحاولة تدبير انقلاب علي السلطة بعد تأخره في نتائج واستطلاعات السباق.. إنه ينزع إلي سحب الشرعية من كل ما يجري ويهدد باللجوء إلي القضاء دون امتلاكه أية أدلة علي ما يسوقه من اتهامات.. إنه أمر فاحش.
وأخيرا أقول: لست في كل ما أسجل هنا أضع نفسي في معرض المفاضلة بين مواقف أو سياسات كل من ترامب وبايدن, فهنا يختلف الكثيرون… لكني أرصد الانتكاسة الرهيبة التي حاقت بآلية الديمقراطية الأمريكية علي يد ترامب, والتي جعلت البعض يتحدثون عن انشقاق الأمة الأمريكية وانزلاقها في صراعات أشبه بالحرب الأهلية, مع مخاوف من التهديد بانفصال بعض الولايات عن الاتحاد الفيدرالي للولايات المتحدة… أما عن التدوير السلمي للسلطة فحدث ولا حرج!!!