نتحدث كثيرة عن الحشمة والاحتشام، وهي مفاهيم أخلاقية في نهاية الأمر، وهي مثل الكثير من المفاهيم الأخلاقية لا نفكر في معناها. ويرتبط استخدام هذه المفاهيم باللغة والجسد، أى بالأشياء التى تربطنا بالعالم الخارجي، بطرق التعبير سواء التعبير اللفظي أو التعبير الجسدي من خلال طريقة الأزياء والسلوكيات الجسدية.
وبهذا المعنى فإن الحشمة والاحتشام هي مسألة نسبية بامتياز، وذلك لأن أساليب التعبير متعددة ومتنوعة حسب السياق الثقافي والاجتماعي، فما يتم قبوله في سياق معين قد لا يكون مقبولا في سياق آخر. ولغويا، تعنى الحشمة “الحياء”، بمعنى أن الشخص الذي يخل بقواعد الحشمة يفتقر إلى الحياء، أي لا يستحي. ويعني الحياء كذلك “الانقباض والانزواء، أى انقباض النفس من شئ وتركه حذرا من اللوم فيه”. وهذا المعنى مهم لأنه يوضح أن “الحياء” أو “الحشمة” هي تصرفات ناجمة عن الخوف من اللوم أو الملامة، وبمعنى آخر الخوف من الاتهام بالوقاحة. وبالتالي، فإن الحشمة أو الحياء هي سلوكيات تفاعلية يحددها السياق الاجتماعي وليست شيئا طبيعيا نولد به أو سابق على العلاقات الاجتماعية، بل هي سلوكيات نتعلمها ونتدرب عليها ونجبر عليها في الكثير الأحيان.
ولكل سياق ثقافي واجتماعي شروطه التي يفرضها من أجل الحشمة والحياء، وهذه الشروط تضيق وتتسع وفق العديد من العوامل والمحددات. فهناك محدد الاحترام المتبادل، بمعنى أن عدم الالتزام بقواعد معينة في الحياء أو الاحتشام قد يسبب أذى مادي أو معنوي لأطراف أخرى. ولكن هذا المحدد، رغم وجاهته، فإنه عرضة دائما للتأويل وسوء الاستخدام. أما المحدد الآخر فهو السيطرة، بمعنى أن الجماعة أو المجتمع يفرضان قواعد معينة للاحتشام والحياء بهدف السيطرة على أطراف أخرى، مثل السيطرة على النساء أو من هم أصغر سنا أو الأقل مرتبة بالمعنى الاجتماعي. أما المحدد الثالث، فهو نفسي بمعنى أن الشخص يبالغ طوعا في إظهار الحشمة والحياء لأسباب دينية أو اجتماعية، بغض النظر عن علاقة ذلك بقواعد الاحترام الاجتماعي، وبدون إجبار من أحد.
وتتحدد منظومة الحياء والحشمة على أساس التوازن بين محددي الاحترام والسيطرة، فكلما زادت قيمة محدد الاحترام كلما أصبحت منظومة الحشمة والاحترام أفقية، أي أن تعبر عن علاقات متبادلة وتفاعلية تخلو، لحد كبير، من الإكراه أو الإجبار، فيتم تبني سلوكيات تحترم الصالح العام وعدم إيذاء أطراف أخرى في المحيط الاجتماعي. وهكذا يخف التركيز على الأمور الشخصية ويزيد التركيز على سلامة العلاقات الاجتماعية والتي غالبا ما يتم تنظيمها بقواعد قانونية ومعيارية متفق عليها. وبالتالي، لا تكون أزياء النساء، مثلا، مصدر الوقاحة وقلة الحياء، لأنها شأن شخصي، وإنما تتحول الوقاحة إلى الجانب الآخر أي في طريقة التعبير أو النظر إلى النساء إذا ما أخلت النظرة أو الكلمة بسلامة العلاقات الاجتماعية. ووفق هذا المنظور، فإن الحجب لا يكون عنوان الحياء والحشمة، لأن ما يستوجب الخجل فعليا هو تجاوز الحدود واقتحام الخصوصيات. أما إذا زاد محدد السيطرة، فإن منظومة الحياء والحشمة تصبح رأسية وفي اتجاه واحد من الأعلى للأسفل، من الناظر إلى المنظور إليه، فلا تكون الوقاحة في عيون التي تستبيح، ولكن في الأجساد التي تُستباح. وهكذا تصبح منظومة الحياء والحشمة وسيلة للتدخل في خصوصيات وحياة الآخرين باسم الأخلاق.
وليس غريبا، إذن، أن ترتبط الحشمة والاحتشام بأجساد النساء على وجه الخصوص، لأنها الموضوع المحبب للنظر والخيال، وما لا يدركه النظر يصنعه الخيال، ومع الافراط في مزاعم و أفعال الحشمة والاحتشام يصبح الحجب ذاته محفزا للخيال، لتعرية وكشف المحجوب عن النظر. ولهذا السبب فإن التحرش الجنسي لا يوقفه الحجب بقدر ما يفاقمه بعد أن بات الحجب ضرورة لخيال يعشق العرى ويثمن الأقنعة، وكما يقول نيتشه عن حشمة النساءأنها “مجموعة من الأقنعة يحجب بعضها بعضه الآخر. فعندما تنزع كل الأقنعة لا يبقى شئ”.