يبدو أنه موسم الموت في جمهورية الظلم,فبعد أن فارقنا ”عم صبحي” – الذي كتبنا عنه الأسبوع الماضي - تاركا بناته أمانة في أعناقنا، رحل عنا أيضا “عم ناصر” الذي ظل يبحث عن حقه طوال خمسة عشر سنة، رحل مقهوراً، محروماً، مفتوح القلب، ملقى على سرير في إحدى مستشفيات الحكومة التي وضعته في ذيل قوائم الانتظار حتى تمرد قلبه على الحياة، رافضاً إياها، هو أيضا كتبنا عنه منذ أعوام، وها نحن نعيد تذكيركم بقصته بعد رحيله، حتى يتسنى لنا مساعدة أسرته المعدمة.
حينما جاء ”عم ناصر” إلينا، قال ببساطة وبراءة شديدة: أنا مش عايز مساعدة أنا عايز حقي من البلد، فأنا من سنة 1979 باشتغل كهربائي في الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، وفي سنة 2003 أصبت بانزلاق غضروفي أخدت إجازة بدون مرتب 6شهور، بعد ماخفيت رجعت الشغل لقيتهم فصلوني بعد24سنة التزام وقالوا إني ما عملتش إخلاء طرف فلقيت روحي فجأة في الشارع وعندي ولدين وبنتين.
اشتغلت كل حاجة علشان أصرف عليهم، سايس وبياع خضار أرزقي وشيال طاولة عيش، لكن دخلي مش بيكفي أي حاجة إحنا سبع أنفار، أنا وأمي ومراتي وأربع عيال، أكل وشرب ومياه وكهرباء وإيجار سكن 500جنيه أجيب منين؟وسط كل ده وقررت ماسيبش حقي، رفعت قضية في مجلس الدولة سنة2004 قعدت قدام المحاكم 8 سنين وفي سنة2012 تم رفض الدعوى - أي منطق ده إللي يقول إن القضية تستمر في المحكمة 8 سنين؟قضية فيها أكل عيش وتشريد.
قال الرجل ما عنده من كلام، وصمم على رفض أي مساعدة من الباب، كانت عزة نفسه أقوى من إحتياجه وصحته، وبعد ثلاثة أعوام، عاد إلينا مرة أخرى حينما تراكمت عليه الديون وقصمت ظهره إيصالات الإيجار التي يجب دفعها حتى يحمي ابنتيه وزوجته وأمه من أعين البصاصين في شوارع المدينة القاسية - كان الإيجار المتراكم حينها ألفي جنيه – وطردهم صاحب العقار ملقياً قطع أثاثهم في الشارع وشاهدت أسرة خطيب الابنة الكبري-ماجري واعتبرته فضيحة فقاموا بفسخ الارتباط.
صار التشريد والحزن عنوانا للأسرة المعدمة، تركت الفتاة التعليم لأن والديها لا يمتلكان مالاً، وفسخت ارتباطها لذات السبب فصار الجميع في الشارع.. كل هذا دفع الست “هدى” زوجة عم” ناصر ” للقدوم إلى باب افتح قلبك.
وقرر عم ”ناصر” التنازل عن عزة نفسه مقابل إيجاد سكن يأويهم بدلا من إيواء تراب الشارع لأسرة نصفها من النساء يعولها الرجل ويساعده ولده الأكبر – الذي ترك التعليم الجامعي ليعمل سائق توك توك دخله 30جنيهاً يومياً- بالكاد يكفي دخلهما مجتمعاً تكاليف الحياة اليومية.
أوجدنا سكناً للأسرة، لكن غلاء الأسعار لم يتوقف، فكلما حاولت الأسرة أن تستر نفسها يكشف الغلاء حوجها، فجاءت الست “هدى” مرة أخرى لنا طالبة مساعدتها في شراء ماكينة خياطة، قائلة: حالتنا تعبانة جدا بناكل طقة ونجوع اتنين وابني وبنتي خرجوا من التعليم وفسخنا خطوبة البنت لأننا مانقدرش على جهاز عروسة ومافيش فايدة خالص البنت والولد التانيين صغيرين جدا ماينفعش يشتغلوا - الولد الصغير عنده خمس سنين خلفته غلطة وأنا عارفة إننا مش هانقدر نصرف عليه – لكن ماكنتش أقدر أغضب ربنا وأقرر إنه مايجيش الدنيا بعد ما ربنا قرر يكون له نصيب فيها، لكن حتى بعد ما جه الدنيا متعذب لأنه عنده كهربا زيادة في المخ وبتجيله نوبات تشنج وبيحتاج علاج دائم…الدنيا جاية علينا من كل ناحية، ومهما نحاول نسد طاقة الفقر مش قادرين. حاولت اشتغل في البيوت، لكن صحتي في النازل، وعندي خمسين سنة والناس عايزة بنت صغيرة عفية وماحدش قبل يشغلني وأنا مش متعلمة وماعرفش أعمل حاجة ولا في أيدي صنعة، لكن مش قادرة أشوف جوزي وعيالي بيتعذبوا وأقف أتفرج أقول إيه ولا إيه، ده أنا أروح أجيب حزمة جرجير البياعة تقول لي:الحزمة بجنيه أصل الدولار غالي، رغيف العيش مابيشبعش، علشان الواحد يسد جوعه عايز اتنين أو ثلاثة على الأقل، أنا مش عايزة حاجة إلا أننا مانمدش أيدينا للناس علشان ناكل، هو ده كتير؟! مش عايزة نشحت علشان نسد جوع عيالنا، أنا خايفة على عيالي، اليأس ممكن يخليهم يعملوا أي حاجة وهو ده إللي خلاني أجي تاني لو ممكن تشتروا لي ماكينة خياطة أعمل ملايات وأبيعها.
واشترينا ماكينة الخياطة وساعدت الست “هدى” زوجها وزوجت ابنتها الكبري والتحق الابن الأكبر بالجندية، ومازال فيها يؤدي الخدمة العسكرية ففقدت الأسرة ميزة عمله الذي كان ينفق منه على الجميع، خاصة بعد أن أصيب عم ”ناصر” بأزمة قلبية تطورت إلى جلطة، ثم استلزم الأمر جراحة قلب مفتوح، و تابعنا الحالة ولم نتخل عن الأسرة، ثم أصيبت الست “هدى” بفيروس سي وفيروس بي – وجار علاجها منهما حالياً على نفقة الدولة – لكن الحظ العثر وضع كل المعيقات في طريق الست “هدى” – المرض، والحوج، واليأس، والظلم، صارت يائسة وأصابها اكتئاب شديد - تخشى على ولدها الأصغر من العدوي من فيروساتها –
أما الإبنة الوسطى جميلة الوجه والجوهر يتلهف عليها طالبو الزواج لكن ما باليد حيلة فلا يوجد مال لخطبة ولا زيجة. وليس لديها أي مؤهل للعمل فهي قابعة في المنزل تعول أخاها حتى تتمكن أمها من إتمام أي عمل بسيط يجلب المال.
ظل الوضع هكذا طوال الفترة السابقة حتى تقرر إجراء جراحة لعم ”ناصر” الذي رقد في منزله شهوراً طويلة منتظراً دوره لإجراء الجراحة، حتى أجرى الجراحة منذ شهر ورحل على أثرها من عالم الشقاء الذي عاش فيه، مهضوم الحق، معذب الجسد، مشرد النفس والطرقات، هو وأسرته.. أخشي أن اتساءل لماذا ياربي تسمح بكؤوس التجارب المضنية أن تجتاح حلوق المغلوبين على أمرهم في الحياة؟! لكنني لن أخشى سؤالكم عما ستفعلون مع أسرة عم ”ناصر ” وأولاده وزوجته، التي كاد الحزن أن يقذفها خارج الحياة هي الأخري؟