اهتم البعض من المثقفين والمفكرين بنشر وترسيخ ثقافة المواطنة في المجتمع المصري, علي مستوي الكتابات الصحفية والأبحاث العلمية والمؤلفات والترجمات,إضافة إلي الندوات والمحاضرات, وغيرها من أنشطة متنوعة, ومن بين هؤلاء يبرز اسم المستشار الدكتور وليم سليمان قلادة
(1924-1999م), وهو المفكر الموسوعي والقانوني الضليع والمؤرخ الموضوعي, حيث يعد واحدا من أوائل الذين اهتموا بقضية المواطنة والتنظير لها منذ فترة مبكرة في تاريخ مصر المعاصر ربما منذ سبعينيات القرن العشرين.
ولد وليم في 14 مارس من عام 1924م في محافظة كفر الشيخ, وفي عام1944م حصل علي ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة, وفي عام 1954م حصل علي درجة الدكتوراه في القانون المدني العام من جامعة القاهرة بأطروحة متميزة دارت حول التعبير عن الإرادة في القانون المدني المصري في إطار مقارن.
كتب الدكتور وليم الكثير من المقالات في عدد من الجرائد والمجلات, بالإضافة إلي أنه تولي رئاسة تحرير مجلة(مدارس الأحد) خلال الفترة من سنة1954م إلي سنة 1959م,خلفا للأستاذ نظير جيد(المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث فيما بعد) الذي ذهب للرهبنة في تلك السنة,وكانت(مدارس الأحد) مجلة دينية مسيحية شهرية صدرت سنة1947م واهتمت علي نحو واضح بقضية الإصلاح, ومازالت توالي الصدور إلي اليوم عن بيت مدارس الأحد بشبرا.
أصدر العديد من الكتب والمؤلفات القيمة,التي طبع بعضها لأكثر من مرة,منها مثلا لا حصرا:تعاليم الرسل الدسقولية, الحوار بين الأديان, المسيحية والإسلام في مصر,مدرسة حب الوطن, مصر في طقوس كنيستها وحكايات أخري,مبدأ المواطنة: دراسات ومقالات.
في ذلك الكتاب الأخير,الذي صدر عن المركز القبطي للدراسات الاجتماعية في عام 1999م,يتحدث مؤلفه الدكتور وليم سليمان قلادة عن معني المواطنة ومقومات الكيان المصري وتاريخ الحركة نحو المواطنة ودروس ثورة 1919 والأقباط من الذمية إلي المواطنة,كما أنه يطرح برنامجا شاملا لتطبيق ثقافة المواطنة من خلال مناهج التعليم ووسائل الإعلام والأنشطة الثقافية والأحزاب السياسية داعيا إلي إنشاء مركز لدراسات الوحدة الوطنية,وهو يقول في كتابه لصفة المواطنة ثلاثة أركان:الانتماء للأرض,والمشاركة,والمساواة أي الندية,ومن ثم يأتي جهد الشخص في إطار الجماعة السياسية لممارسة صفة المواطنة والتمسك بها,والدفاع عنها.وحين تنجح الجماعة في حركتها الوطنية والدستورية,أي حين تنجح الجماعة في استخلاص حقوق الوطن والمواطن (اللحظة الدستورية) فتتحول الأرض إلي(وطن) والإنسان الذي يحيا عليها ويشارك في صياغة حياتها إلي(مواطن).حينئذ يسجل مضمون هذه اللحظة في وثيقة هي(الدستور).
قبل أن يرحل الدكتور وليم وضع مخطوط كتاب عنوانه(المواطنة المصرية), يستعرض فيه مسيرة المواطنة في الخبرتين الغربية والمصرية, ولكنه لم ينته منه ولم ينشر,إلا أن بعضا من أصدقائه ومحبيه اهتموا بالمخطوط الذي تركه, ليصدر في كتاب يزيد عن500صفحة عن مؤسسة أصدقائه ومحبيه اهتموا بالمخطوط الذي تركه, ليصدر في كتاب يزيد عن500 صفحة عن مؤسسة المصري لدراسات المواطنة وثقافة الحوار, وهي مؤسسة معنية بدراسات المواطنة في الخبرة المصرية منها علي وجه الخصوص أسسها الكاتب والمفكر المعروف الأستاذ سمير مرقس,وقد أعيد نشره في إطار مكتبة الأسرة-مهرجان القراءة للجميع.
شارك الدكتور وليم في العديد من أنشطة المركز القبطي للدراسات الاجتماعية بأسقفية الخدمات العامة والاجتماعية,ومن ندوات ومؤتمرات وإصدارات,وكان هذا المركز قد تأسس عام1994م كأحد مؤسسات أسقفية الخدمات العامة والاجتماعية,بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية,وأسسه مجموعة من الباحثين والمثقفين المعنيين بالشأن العام.
كان د.وليم يسعد كثيرا بلقاء الشباب, ومن ذلك أنه وبكل حب كان يلقي علينا المحاضرات في مجموعتي المشاركة الوطنية والتنمية الثقافية بأسقفية الشباب,يحدثنا عن وطنية الكنيسة المصرية والأقباط كمواطنين فاعلين وشركاء, ويحث الحضور علي التفاعل البناء والتواجد الإيجابي في المجتمع المصري وعدم الانعزال أو الانغلاق حول الذات.
لقد أسس الدكتور وليم مدرسة مصرية رائدة في فهم ودراسة مبدأ المواطنة والتنظير له,وهي في الواقع مدرسة ينتمي إليها كثيرون من الكتاب والباحثين المعنيين بقضية المواطنة والعلاقة بين المواطنين الأقباط والمواطنين المسلمين علي وجه الخصوص.
رحل الدكتوروليم سليمان قلادة عن عالمنا في اليوم العاشر من شهر سبتمبر عام1999م عن عمر يناهز نحو خمسة وسبعين عاما,حيث مثلت تلك السنوات رحلة حافلة بالكثير من العطاء علي المستويين/المجالين الخاص(الكنسي) والعام (المجتمع المصري).
يقول عنه الأستاذ سمير مرقس-أحد الذين اقتربوا منه وعايشوه- إنه كان دائم التفاعل مع وطنه ورسالته تماسك الجماعة الوطنية…إنه عينة نادرة من البشر… كانت ثقافته موسوعية.. يفرح بأي فكرة جديدة وبأي كتاب يقدم له إضافة… كان دائما المرجع الذي يتم اللجوء إليه لطلب النصح والأفكار…كان بيته مفتوحا للجميع في أي وقت…لم يسع قط لمنصب أو أن يكون في الضوء…ولم يتضايق قط من أن يتداول الآخرون أفكاره…لم يجد تعارضا بين الانتماء الديني والانتماء الوطني وكان مصالحا بينهما في كل ما فعل…وكان من أوائل المنبهين للمشاكل, ولكن في الإطار الوطني وبما يضمن استمرار المصالحة…أداته العلم والمعرفة والتاريخ لا احتفاليات البعض أو مناحات البعض الآخر.
وإذا كان شهر سبتمبر من هذا العام قد شهد مرور عشرين عاما علي رحيل د.وليم,فقد يكون من المناسب أن نحتفي بالراحل الكريم من خلال نشر مؤلفاته في طبعات شعبية,كما أدعو المجلس الأعلي للثقافة لتنظيم ندوة عن هذا الرجل,حتي تتعرف الأجيال الجديدة من الشباب علي مفكر مصري رائد قدم للفكر المصري الكثير من الأفكار المستنيرة والرؤي المنيرة التي دارت في مجملها حول حب الوطن والانتماء إليه قولا وعملا.