خرجت من المستشفي, وسعدت بالعودة إلي بيتي ومكتبي, ومع أنني كنت أشعر بضعف كبير, وعدم قدرة علي العمل أو القراءة أو الكتابة إلا أنني كنت أحب الجلوس في مكتبتي العامرة, التي يحب كل الأصدقاء والزوار زيارتها والجلوس فيها, والاستعارة منها إن أمكن وأنا لا أمانع في ذلك بشرط أن يعيد المستعير الكتاب لي, وذلك لأن هناك كتبا غير موجودة في السوق أو المكتبات الآن, ثم أسعار الكتب أصبحت مرتفعة جدا, ومكتبتي هذه كونتها في عشرات السنين, كتاب كتاب اشتريته أو وصلني هدية من كبار الكتاب, وهي تضم حوالي خمسة آلاف كتاب في شتي العلوم والفنون والآداب والفلسفة والدين, وكل أنواع المعرفة, أشعر أن مكتبتي هي الكنز الذي أملكه وأحب أجلس بين الكتب, أشعر بمشاعر جميلة, كنوز المعرفة والآثار والتراث. أتذكر كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي.
* أنا من بدل بالكتب الصحابا لم أجد لي وافيا إلا الكتابا..
* وكلمات لويس بريل, مخترع الكتابة للمكفوفين..
الكتب وحدها هي التي تستطيع أن تحطم جدران الوحدة التي أعيش فيها.. وكلمات الفيلسوف توماس كارلييل.. كل ما فعلته البشرية. أو فكرت فيه. أو ربحته. أو كانته, يرقد بين صفحات الكتب. ويقول الدكتور طه حسين:
الإنسان حيوان قارئ..
شعرت بالفخر وأنا أجلس في مكتبتي الصغيرة العامرة وبخاصة بعد أن من الله علي بالشفاء والخروج من المستشفي, شعرت أن رسالتي الثقافية لم تنته, شعور عظيم فياض أن تجلس بين الكتب, وهي كنوز الدنيا من حولك, الفكر الإنساني والفلسفة والعلوم والفنون مع بعض أعمال كبار الفنانين مثل صلاح طاهر, محمود سعيد, والفرنسيين رنوار, وموني, والإيطاليين رافاييلو وميكل أنجلو وغيرهم.
إنها ثورة العقل وثروته التي يعيش عليها العالم كله.
كان لابد أن أجلس في مكتبتي العامرة لأشعر أنني مازلت أعيش وأستمتع بكل شيء كل كتاب كل صورة كل لوحة كل تمثال لأصدقائي: سقراط أبو الفلسفة, جيته الأديب الألماني, بوذا, زرادشت, تمثالا موسي والرحمة للسيد المسيح.
* من الطبيعي أن أصاب بضعف شديد وأنيميا حادة بعد العملية الكبيرة التي أجريتها, ومع أنه تم نقل دم إضافي إلي جسمي الضعيف إلا أن الضعف كان كبيرا, وشعرت أن حركتي بطيئة وقدرتي علي القراءة ضعيفة أيضا, ولأول مرة في حياتي أنصرف بعض الوقت عن القراءة, وأحاول البحث عن قنوات التليفزيون لأشاهد قناة تقدم ثقافة مفيدة أو برامج جادة لكن للأسف. معظم قنوات التليفزيون تقدم برامج تساعد علي نشر الجهل والخرافة لا تتفق مع العقل أو تشجعه علي التفكير والإبداع. برامج كلها من صنف فتح عينك تاكل ملبن أو مشي حالك, والسبب الحقيقي هو افتقار المذيعين للثقافة الحقيقية الجادة وعدم اهتمامهم بالثقافة العامة والأدب والفلسفة, في نفس الوقت أريد أن أبدي إعجابي الشديد بالمفكر والإعلامي الكبير إبراهيم عيسي والمذيعة المتألقة لميس الحديدي وتامر أمين المثقف المتمكن من نفسه ولا أنسي المتألق شريف منير, وبعض قليل لكن الصورة عموما قاتمة. برامج تشغل الناس في قضايا فارغة ومشاكل اجتماعية عن الزواج والطلاق والسحر وقراءة الطالع وتفسير الأحلام وإعلان رسمي عن الدجل والخرافة هذه بالإضافة إلي اهتمام الفضائيات بالطبخ والطعام وتقديم أصناف ووجبات من الطعام لا تتمشي مع الحياة المصرية ومعيشة المواطنين تجعل بعضهم يشعر بغربة في مجتمعه! أقول إن التليفزيون يساهم فعلا في نشر الجهل وإضعاف التفكير والبعد عن الإبداع والتألق! وضياع الشباب..
* لعن الله الأنيميا والضعف التي أبعدتني فترة عن القراءة والكتب وثروة العقل وكنت بين الحين والحين أحاول القراءة, فصل من كتاب بسرعة وكنت أشعر بسعادة غامرة أن أعود إلي طبيعتي وأستعيد ثقافتي وشعرت بحاجة الإنسان الضعيف لمن يساعده ويشجعه علي العمل وحب الحياة, إن الذين يشجعون الشباب علي حب الحياة والعمل والتفاؤل هم جيش الحياة والمستقبل الناجح المفيد المثمر. وتذكرت في هذه اللحظة فيلسوفا شهيرا كان ضد الضعفاء والمعاقين بل كان يقول: إن مصلحة البشر وارتقاء الإنسان يقضيان محاربة الضعف والضعفاء والمرض والمرضي والنقص كما يقضيان تشجيع الصفات العالية كالصحة والقوة والذكاء. فمادام هذا هو الهدف فهل من الخير للناس أن يؤسسوا المستشفيات لمعالجة المرضي؟ وهل من الخير للناس أن يباح الزواج للأبله والمغفل والأشوة؟!
إنه الفيلسوف الألماني.. فردريك نيتشه الذي ولد سنة 1844 ورحل في 1900, والعجيب أن يكون أبوه قسيسا وكذلك أمه متدينة, بل ويدرس هو في البداية في كلية دينية كي يكون قسيسا في المستقبل لكنه خرج عن الأخلاق وكل القيم الإنسانية والدينية ونادي بفلسفة السوبرمان فلسفة القوة, وظل عشرين سنة يهاجم القيم الأخلاقية والدينية, وغريب أنه كما يقول كاتبنا الكبير سلامة موسي في كتابه (هؤلاء علموني) إنه كان يغير من شخصية السيد المسيح ويقلده لكن بطريقة عكسية فبينما كان المسيح يدعو إلي الرحمة والحنان والإخاء البشري في أبوة الله كان, نيتشه, يدعو إلي القسوة والتفاوت والاهتمام بالأقوياء الأصحاء وإهمال المرضي والضعفاء. قد يسألني قارئ ولماذا تذكر نيتشه بالذات الذي كان يهاجم الأديان والأدباء والقيم الأخلاقية والمرضي والضعفاء ويقول: إن العبيد لا يجب أن يعيشوا إلا لكي يستغلهم السادة. ويجب أن تفني كثرة الناس ليحيا الإنسان الأعلي (السوبرمان).
أقول ينبغي للقراء الأعزاء أن يطلعوا علي الفكر العالمي بأكلمه, فهذه ثقافة موجودة معروفة وعلينا أن نحافظ علي شبابنا من شرورها وغلوها. في كتابه الضخم:
أعلام الفلسفة كيف نفهم؟ تأليف الدكتور هنري توماس, ترجمة ومراجعة الدكتور زكي نجيب محمود.. يعرفنا المؤلف علي الفيلسوف, نيتشه, فيقول.. إذا توخينا الدقة, فإن نيتشه لم يكن فيلسوفا وإنما كان شاعرا, بل قل كان واحدا من أخصب شعراء النثر خيالا في القرن التاسع عشر, فلم يتقدم بمذهب محدد, كما أن أفكاره كانت تحتوي من المفارقات ما يجعلها غير منطقية, ومع ذلك فمن بين مبالغاته ومتناقضاته المتشابكة تخرج تركيبة من السم الذي كاد يفتك بالجنس البشري علي أيدي تلاميذه.
هكذا كان نيتشه عدو الإنسان والأديان.!
هكذا لم يصمدني المرض لكن أزعجتني مشاعر الناس الفاترة وأرهقتني الأنيميا الملعونة, وأغضبني فكر نيتشه الأسود وعدم احترامه للإنسان والإنسانية.
نستكمل في اللقاء القادم