الصداقة قيمة إنسانية رائعة, وبخاصة عندما ما تتم بين شخصين سويين ولامعين مفكرين, فما بالك أن تكون بين اثنين من كبار المجتمع وشيوخه. إنها تكون أكثر من رائعة, ونتائجها مفيدة للجميع وللشعب كله, البابا الذي أقصده هو قداسة البابا الأنبا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الـ118, الذي اعتلي الكرسي المرقسي في 18 نوفمبر 2012 خلفا لقداسة البابا شنودة الثالث البطريرك رقم 117. اسم قداسة البابا تواضروس الثاني هو: وجيه باقي سليمان ولد في 4 نوفمبر 1952 في مدينة المنصورة.
أما الفيسلوف فهو الدكتور مراد وهبة أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس سابقا, رئيس الجمعية الدولية لابن الرشد والتنوير, عضو الهيئة المعلمية للجامعة العالمية للعلوم الإسلامية عضو الأكاديمية الإنسانية, أستاذ متفرغ بجامعة عين شمس.
وقد يسألني القارئ العزيز لماذا تريد أن تتحدث عن الصداقة بين قداسة البابا تواضروس الثاني وفيلسوف مصر المعروف الآن الدكتور مراد وهبة؟
الحقيقة أننا تعودنا علي عدم وجود صداقات بين رجال الدين والفلاسفة, بل عداء ومشاجرات ومناقشات تصل للقتل أحيانا علي مر فترات التاريخ المختلفة, وأمامنا نماذج لهذه العداءات والمشاجرات. النموذج الأول والمهم لأول فيلسوفة في العالم هيباتيا Hypatia أول امرأة يلمع اسمها في التاريخ كفيلسوفة وعالمة فلك ورياضيات, ابنة الفيلسوف اليوناني ثيون مدير مكتبة الإسكندرية سنة 391م ولدت 370-415م كانت امرأة جميلة تدعو للحب والتسامح وتقول للجميع إن الشجار للعبيد لا للمتعلمين, لكن التعصب الأعمي دفع الجميع إلي قتلها وحرق مكتبة الإسكندرية, فبحثوا عنها وجردوها من ملابسها ثم سحلوها عارية تماما في صحراء النطرون بالقرب من المكتبة, قام أحدهم بفصل رأسها عن جسدها, وانهال بقيتهم في بتر معظم أعضائها وختموا جريمتهم الوحشية بإشعال النار في بقية جسدها.
النموذج الثاني قريب الشبه بالأول لكنه بعيد زمنا عنه, إنه جوردانو برونو 1548-1600م شهيد الفلسفة والعلم الإيطالي الذي اتهمته الكنيسة -كما يقول د.لويس عوض في كتابه ثورة الفكر في عصر النهضة الأوروبية- بتهم الزندقة والردة والطعن في العقيدة المسيحية والشك في العلم, وهي تقريبا نفس التهم التي وجهت إلي العالمة هيباتيا ولكن بعد 1185 سنة, فسلمته الكنيسة للسلطات المدنية لإعدامه, فأحرق حيا في ميدان كامبو دي فيوري 17 فبراير 1600م.
النماذج كثيرة لكن لهول الأحداث أكتفي بنموذجين حتي لا أزعج القراء الأعزاء وأخيفهم, فالقتل كان في تلك الأيام شيئا عاديا, والصداقة بين رجال الدين والفلاسفة كانت شبه مستحيلة ونادرة, ومع ذلك كان وجود رجل دين وفيلسوف في نفس الوقت ممكن, لكنه نادر جدا مثل القديس الفيلسوف أوغسطين 354-430م وهو جزائري الأصل.
من أجل ذلك أرحب بالصداقة الواضحة بين قداسة البابا المعظم المتواضع الأنبا تواضروس الثاني والفيلسوف العبقري مراد وهبة, وأنا لا أضيف شيئا علي أستاذنا مراد وهبة عندما أقول عبقري, فقد قال المشرف علي رسالة الماجستير التي نال درجتها في باريس القرن الماضي.. وكان عنوانها: المذهب عند الفيلسوف كانط.. قال أستاذه الفرنسي عنه: مراد وهبة.. عبقرية مفرطة.
عرفت أستاذنا د.مراد وهبة من خلال عملي في الإذاعة وكان ضيف برامجي وحواراتي التنويرية دائما, والطريف أنه في أحد الحوارات تحدث كما يتحدث بحرية دائما فاعتبره المسئول في الإذاعة خارجا عن اللازم وحولوني للتحقيق بسبب البرنامج, لكن المحقق فهم المقصود بالحوار ولم يعاقبني, وبخاصة أنني كنت مذيعا ناجحا واعتذر عن هذا الكلام, وتشرفت بصداقة الأستاذ وأهداني بعض مؤلفاته التي أعتز بها.
لاحظت في السنوات الأخيرة اهتمام قداسة البابا تواضروس الثاني بالإطلاع علي كتب د.مراد, كما لاحظت كتابة فيلسوفنا مراد وهبة عن قداسة البابا واهتمامه بفكره المستنير الفلسفي, ونشر آخر ذلك في جريدتنا الغراء وطني 28 يناير 2024 نشر أستاذنا مقالا كتب عنوان هذا المقال مشتقا من عبارة قالها قداسة البابا تواضروس في إحدي عظاته الأسبوعية وجاءت علي النحو التالي:
إن العنف لا يجلب إلا العنف, بل عنفا أكبر, ومع تصاعد العنف يضيع معني الإنسانية, وحينما أتابع الأخبار القادمة من غزة أتساءل أين ذهبت الإنسانية؟ ومغزي سؤال البابا يكمن في التناقض الحاد بين العنف والإنسانية إلي الحد الذي عنده تضيع الإنسانية. والسؤال إذن ما هي هذه الإنسانية الضائعة؟ تاريخيا, يمكن القول إن الإنسانية هي حركة نشأت في القرن الخامس مع سقراط وزملائه من السوفسطائيين الذين أنزلوا الفلسفة من السماء إلي الأرض, ولا شك أن العقل إذا ضاع, ضاعت الإنسانية, لأن ما يميز الإنسان أنه حيوان عاقل, ومن هنا يلزم تحديد معني العقل, وهو في رأيي أنه عقل مبدع بحكم العلاقة العضوية بين العقل وإبداع الحضارة الإنسانية في انتقالها من حضارة البداوة إلي الحضارة الزراعية. يمكن القول إن نهاية المطاف في تساؤل قداسة البابا تواضروس كامن في ضرورة البحث عن ضياع الإنسانية في العقل المبدع.
بمناسبة قول د.مراد وهبة إن السوفسطائيين أنزلوا الفلسفة من السماء إلي الأرض, فإن أستاذنا د.مراد وهبة نفسه يعمل علي ذلك وينزل الفلسفة من السماء إلي الأرض, فهو أستاذ وباحث وفيلسوف لكنه دائما يدخل الفلسفة في مشاكل الناس بحثا عن ثقافتهم وبحثا لحلول لمشاكلهم.
رأيت قداسة البابا تواضروس الثاني لأول مرة أثناء تجليسه في 18 نوفمبر 2012 فقد كنت المذيع المسئول عن إذاعة الصلاة علي الهواء, وبعد أن أصبح البابا لم أره إلا بالمصادفة أثناء قداس جنازة الدكتور ميلاد حنا عضو مجلس الشعب 11/29 في الكنيسة البطرسية بعد نياحة البابا شنودة الثالث, ولست أدري لماذا ملأتني الدهشة وأنا أدخل الكنيسة ورأيت أمامي مباشرة قداسة البابا الجديد الأنبا تواضروس الثاني بعد 11 يوما من تنصيبه يحضر الجنازة, كنت أجلس مصادفة في أول مقعد في الكنيسة, كان حضوره جنازة د.ميلاد حنا واجبا ضروريا فقد كان أستاذا ومعلما ووالدا فعندما سرقت سيارتي الخاصة اتصل بي تليفونيا وطيب خاطري قائلا: أي وقت تحتاج سيارة اتصل بي أبعث لك سيارتي والسائق تحملك إلي أي مكان تريد.
هذا اللقاء أثر في شخصي جدا وعرفت أشياء عن قداسة البابا الأنبا تواضروس الثاني لم أكن أعرفها, ففي قداس السيامة والتنصيب رأيت دموعه الغزيرة دليل تواضعه وشعرت كم هو قديس محب للصلاة, ثم في اللقاء الثاني في الجنازة تأملت وجهه وشعرت كم هو إنسان محب متسامح متواضع بسيط, كان يقابل كل الناس, ويشد علي أيديهم معزيا ويناقش البعض في حياتهم وهكذا تعددت اللقاءات أثناء إذاعة قداسات الأعياد علي الهواء ولقاءات أخري وزادت معرفتي بقداسته وهو محب للعلم والقراءة وأخيرا مع أستاذنا د.مراد وهبة شعرت أن له تأملات فلسفية إنسانية رائعة تدل علي أنه أديب مثقف علي قدر عال من الثقافة يفخر بها كل من يعرفه, وكما يقول أستاذنا وهبة إن من كلمات البابا الرائعة الإنسانية ترياقا للعنف.