المرض تجربة بشرية عاني منها كل البشر, وهي تجربة صعبة حافلة بالآلام والأوجاع والأنين والبكاء والصراخ, حتي الأنبياء والفنانين تألموا وقاسوا منها. كلنا نذكر النبي أيوب وكيف صبر علي مرضه؟ لذلك ضرب به المثل في الصبر, كذلك كلنا نعرف كيف عذب المرض القديس الهندي بوذا 363 ـ 484ق.م وهل ننسي الفنان شوبان الذي كان الدم يتساقط من فمه علي أنامله التي كانت تعزف أجمل الألحان, ثم فنان الجمال الفرنسي الذي كان يسكب الجمال علي لوحاته, أوجست رنوار, 1841 ـ 1919م وهو يعاني من الشلل, لكنه كان يحاول ويبدع ويمتعنا.
كل البشرية تئن وتتوجع من مشاكل كثيرة منها المرض. وربما كان هذا سبب ثورة بعض الفلاسفة ضد الحياة, وسؤالهم الدائم.. لماذا نعيش لنتعذب وما فائدة هذه الحياة, وبخاصة أن نهايتها الموت؟
ربما يكون من هؤلاء الفيلسوف الألماني, آرثر شوبنهاور, 1788 ـ 1860م الذي قال (إن الوجود كله ليس إلا نتيجة إرادة الحياة, ليست حياتنا إلا مأساة, فهي سخرية إذا بحثنا في تفصيلاتها, ومأساة إذا نظرنا إليها في مجموعها) ويؤكد شوبنهاور أو شهوة تناسل النوع هي التي تربطنا بلا انقطاع بعجلة الحياة فأخذنا نخلد بؤس الجنس البشري هكذا كان هذا الفيلسوف متشائما. في عام 1819 نشر ملحمته في اليأس في كتابه (العالم كإرادة وفكرة) وأخذ يردد أن أكبر نكبة ضرب بها العالم هي إرادة الحياة, إنها إرادة عمياء لا ترجي منها فائدة ونحن عبيد للحياة, لذلك فإن اليوم الذي نموت فيه أسعد من اليوم الذي ولدنا فيها, لكن كم تبلغ سعادتنا منتهاها لو أننا لم نولد ألبتة…
قضي شوبنهاور أكثر من ثلاثين سنة يدعو إلي قلعته المتشائمة وأن الحياة ما هي إلا جري وراء الأوهام, لم يرافقه إلا كلبه الذي أطلق عليه سكان المدينة (شوبنهاور الصغير). تسائل شوبنهاور, ما هو الحل إذن.. هل هو في انتحار الجنس البشري؟ أم في انتحار الأفراد؟ ثم يقول ومادام هذا مستحيلا, فلعل هناك سبيلا ثالثا وهو تقبل ما قدر علينا في حكمة وهدوء وهو نظرة موضوعية للحياة, هكذا ينتهي تشاؤم شوبنهاور إلي لذة عقلية وتفاؤل سلبي. إنه يطلب منك أن تدرب عقلك علي إخضاع إرادتك, ولتجعل من ضبط نفسك رادعا عن انغماسك في إشباع الشهوات والرغبات, فالعقل غير الأناني يصعد كالرائحة الزكية فوق أحكام عالم الإرادة وحماقاته بل ويسمو علي العقل نفسه.
هكذا المرض تجربة بشرية يقابلها كل إنسان منذ تأسيس العالم, ويدفع ألم المرض ووجعه وتعبه ومعاناته الناس إلي محاولة العلاج وطلب نعمة الهدوء والسكينة والتخلص من هذا الألم عن طريق علاج الأطباء والعلاج بالأعشاب. وعندما يشتد الألم والوجع فالإنسان يبحث عن أي شيء يمكن أن يذهب الألم حتي لو كان ممنوعا, والأطباء أنفسهم يستخدمون بعض أنواع المخدرات الممنوعة لإسكات الآلام المبرحة التي تكاد تقتل الإنسان, والإنسان المتألم جدا يتمني أن يموت حتي يستريح, والبعض ينتحر فعلا في الدول المتقدمة ابتدعوا موت الرحمة وهو أن يطلب المريض الذي يعاني من مرض ميئوس منه يطلب حقنة الرحمة التي تنهي آلامه وحياته في دقائق مادامت هذه رغبته, لكن الدول النامية والشرقية لا تعرف موت الرحمة لأنها تؤمن بأن الحياة والموت بإرادة الله فقط.
أقول لم يصدمني المرض علي الرغم من خطورته وأنه أخطر مرض في العالم, السرطان, فمنذ أربعة أشهر تقريبا وأنا أتعذب وأذهب إلي المستشفيات وأجري الفحوص والمناظير والإشاعات المختلفة العادية والمقطعية, وأدخل في أجهزة كصندوق الموتي وأخرج منها, وأرفع يدي لأتلقي المحاليل والدواء والفيتامينات والغذاء سهران ليل نهار من أجل العلاج.
بعد أن تأكدت من وجود المرض وأنه سيطر علي الحالب الأيمن ويهدد كل الجسم بالانتشار والقضاء علي جسدي الواهن المعذب, وأنا في هذه السن المتقدمة, فقد بلغت من العمر أجمله! وأقول أجمله لأنني لا أؤمن بأن هناك أرذل العمر بل هو أجمله لأن العمر هو هدية من الله ومن هنا يجب أن نحترمه ونعتز به ونحفل به ونفخر به أيضا, أليس العمر نعمة في حد ذاته, لقد حتفلت بعيد ميلادي الواحد والثمانين في 15 يوليو الماضي عام 2023, احتفلت به وأنا مريض.. لم يصدمني المرض علي الرغم من خطورته, فالمرض تجربة إنسانية عادية, وكنت متوقعا أن أصاب بذلك المرض, لا أعرف السبب جيدا, وربما لأنني أتمتع بقوة الحاسة السادسة التي تتنبأ بالأحداث.
بعد أن تأكدت بدأت أفكر في سرعة العلاج, وكانت بطلة علاجي والإشراف علي إجراء العملية وإعداد الأوراق الرسمية المختلفة والذهاب والإياب والسهر ليل نهار والذهاب معي للمستشفي والعودة للبيت زوجتي العزيزة, مني الملاخ, التي لا أجد كلمات تعبر عن حبي واحترامي لها أبلغ مما قاله سليمان الحكيم.. (امرأة فاضلة من يجدها لأن ثمنها يفوق اللآلئ..) بعد إعدادي التام لإجراء العملية الجراحية الكبيرة والخطيرة لم أكن متفائلا بإجرائها بل كنت أشعر بأنني سأذهب من خلالها في طريق الأرض كلها لرحمة الله!
هذا مع أنني متفائل دائما وأكتب في كتبي ومؤلفاتي دائما هذه العبارة.. تفاءل حتي الموت بل تفاءل بالموت ذاته.. ربما كان عدم تفاؤلي من إجراء العملية هو سني المتقدمة, فقد انتهي عمري الافتراضي, وقد انتهت رسالتي وكبر أحفادي وحضرت حفل زواج أكبر حفيد لي في كندا المهندس نبيل واصف والفاضلة ناتالي ناجي. ثم أكملت رسالة عملي في الإذاعة ووصلت إلي منصب نائب رئيس الإذاعة ووكيل وزارة الإعلام, ثم قدمت أكثر من 25 كتابا في الأدب والفكر والإنسانية, وهي رسالة أخري مهمة اعتز بها.
هذا بجانب مقالاتي المختلفة التي نشرت علي مدي الخمسين عاما الماضية في صحف وطني والأهرام والأخبار والمصري اليوم والمساء ومجلات نصف الدنيا والهلال والكواكب وطبيبك الخاص والمصور وغيرها يستطيع أي إنسان يقرأ هذه المقالات لو طلب من جوجل مقالات أو حوارات أو كتب فايز فرح.. هي رسالة أعتز بها كثيرا.. ألا يكفي هذا القدر من العمل في مجال الإعلام والصحافة والكتب..
نستكمل في اللقاء القادم إن شاء الله