منذ أسبوعين, كتبت في هذا المكان مسترجعا أحداث ثورة 30 يونيو 2013, وكيف أنها كانت انتفاضة شعبية جارفة ثائرة علي أوضاع رفضها المصريون, وتراكمات عانوا منها لسنوات غير قليلة -صحيح أن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت سنة 2012 التي سمح بها الرب لتنقض جماعة الإخوان علي السلطة لأن الرب أراد أن يفطم المصريين من بدعة تلك الجماعة, لكن ما سبق تلك التجربة كان ممتدا لسنوات من غياب العدالة والتنمية والمغامرة بمقدرات الدولة التي تم تسليمها لسطوة أساطين المال والأعمال وللترتيب لسيناريو توريث السلطة- ولعل من الثابت لدي المؤرخين وخبراء الاجتماع أن الشعب المصري يمتلك قدرة هائلة علي تحمل الغبن والمظالم, ولكنه حتما يصل لدرجة الانفجار مهما طال الأمد ويخرج عن بكرة أبيه مطالبا بالإصلاح.
وكما يقول المثل: ما أشبه الليلة بالبارحة ذهبت وطني تنقب عن جذور ما حدث في 30 يونيو 2013 لتجد ضالتها في ثورة 1919 -أي بعد ما يقل قليلا عن قرن من الزمان- وهو ما تقدمه هذا العدد علي صفحاتها, ويمثل سجل شرف يثبت أن المخزون الوطني لدي المصريين ليس عارضا ولا حادثا من قبيل الصدفة, إنما هو معيار راسخ كامن في الشخصية المصرية, يستشعر بإحساس وطني مرهف كل ما يهدد أمن وأمان هذا الوطن, وسرعان ما ينطلق رافضا العبث بمقدراته, ساعيا إلي إصلاح المعوج وعلاج الفاسد.
وإليكم بعض الملامح المشرفة التي يضمها تاريخ ثورة 1919 والتي لن تخطئوا تكرارها في ثورة 2013, الأمر الذي يؤكد أنه من رحم الجذور ينبعث رحيق الزهور:
** في بادئ الأمر لم تظن قوات الاحتلال الإنجليزي أنها ثورة, فقد كانت تعتبرها مجرد مظاهرات أو احتجاجات بدأها طلبة الجامعات, لكنها سرعان ما أدركت أن جميع طوائف الشعب من العمال والموظفين والفلاحين شاركت فيها, بل أيضا خرجت المرأة المصرية للمرة الأولي ضمن صفوفها, كما شهدت تلاحما كبيرا بين مسلمي ومسيحيي مصر الذين وفدوا بحماس منقطع النظير إلي الشوارع مشاركة وتعضيدا لقضية المصريين… وهنا لا أستطيع أن أمنع نفسي من عقد المقارنة بين ذلك السيناريو وبين نزول المصريين إلي شوارع جميع المدن المصرية في 30 يونيو 2013… جميع فئات وطوائف المصريين, حيث كان مشهدا مهيبا عفويا تلقائيا غير مرتب مسبقا يعبر عن انطلاق الشعب كله عن بكرة أبيه ليصرخ صرخة واحدة رافضا ما يحاك بمصر ومطالبا بالإصلاح… كان عظيما أن يسجل التاريخ تلاحم الرجل والمرأة, الشاب والفتاة, الملتحي وغير الملتحي, المحجبة والمنقبة جنبا إلي جنب مع المكشوفة الرأس, الجميع تجمعهم وقفة واحدة هي مصر… مصر التي جري اختطافها وتنعقد الإرادة الوطنية علي الذود عنها وإنقاذها.
** يقول المؤرخ المصري عبدالرحمن الرافعي في كتابه ثورة 1919 تاريخ مصر القومي: اشتعلت الثورة ليس فقط بسبب المعاناة التي تحملها المصريون في سنوات الحرب العالمية الأولي التي فرض عليهم خوضها إلي جانب دولة الاحتلال الإنجليزي, وإنما أيضا كتعبير عن رفض الظلم والاستغلال لموارد الدولة وتسخيرها لخدمة أهدافه بما أدي إلي ارتفاع الأسعار وانتشار البطالة واحتكار الأجانب للوظائف ومصادر الدخل ومعظم الحرف الماهرة, تاركين للمصريين الفتات والأجور المتدنية… هذا في ظل نقص السلع الأساسية وتدهور الأوضاع المعيشية… ومرة أخري أجد نفسي عاقدا المقارنة بين ذلك السيناريو وبين تراكم معاناة المصريين الذي أدي إلي انفجارهم في 2013, ففي ذلك الحين بلغ تنكر السلطة لحقوقهم ومصالحهم مداه, وتركتهم يعانون أشد المعاناة من تدهور الأحوال المعيشية والاقتصادية للطبقات الفقيرة والمتوسطة بينما أطلقت العنان ليد رأس المال وأصحاب النفوذ لتتغول وتثري بلا رابط, شريطة مؤازرة سيناريو توريث السلطة… وكانت من عجائب أدوات ذلك السيناريو أن أساطين رأس المال تم تمكينهم من الاستحواذ علي مناصب القيادة في المنابر السياسية ضمانا لتهيئة المناخ نحو تمرير خطة توريث السلطة.
** أصاب إضراب العمال العاصمة القاهرة بالشلل وانضم له إضراب السائقين للترام والأجرة, حتي تعطلت جميع المصالح وقام المتظاهرون بقطع الاتصالات من أسلاك البرق والهاتف وأغلقت مقار البنوك والمحال التجارية وتبع ذلك إضراب القضاء والمحامين وعمال السكك الحديدية, وعمت الثورة جميع الأرجاء حتي اضطرت سلطات الاحتلال إلي تهدئة الأوضاع بعودة سعد زغلول ورفاقه من المنفي والإفراج عن المعتقلين وإلغاء حظر الصحف وتسوية مطالب العمال.. وهذا عينه يعود بي إلي استرجاع أحداث ميدان التحرير, حيث تشبث المصريون باحتلالهم الميدان وندائهم الشهير: مش هانمشي.. هو يمشي ولم يرهبهم تغول السلطة الأمنية وزعمها قدرتها علي سحق الثورة الشعبية, بل تشبث الشعب بمواقعه ولم يثنه أي تهديد عن الإصرار علي مطالبه حتي نزل جيش مصر العفي منحازا إلي إرادة الشعب وحاميا لثورته فكانت النصرة للإرادة الشعبية… وتكررت الملحمة الوطنية من ثورة 1919 إلي ثورة 2013 حيث ترسخت مفاهيم من رحم الجذور ينبعث رحيق الزهور.