تتداعي مجريات الأحداث ساعة وراء ساعة ويوما بعد يوم مختطفة السودان من استقرار مأمول إلي مصير مشئوم, والمصيبة أن ما يحدث ليس بفعل عدو خارجي يهجم علي بلد شقيق, ولكنه نتاج ما يفعل أبناؤه بعضهم ببعض.. صحيح أن ملامح المؤامرات الخارجية والأطماع في ثروات السودان من جانب قوي أجنبية واضحة لاشك فيها, لكن الكارثة المؤلمة أنه ما كان لتلك المؤامرات أن تدرك مبتغاها لولا انصياع فريق من أبناء السودان لها وانقلابه علي السلطة الشرعية, مما أفرز صورة كريهة من صور الصراع علي السلطة والحرب الأهلية, يضاف إلي ذلك شيطان وجود قوة مسلحة تنافس وتتمرد علي سيادة الجيش الوطني السوداني… وهذان الأمران (الصراع الطائفي وتعدد الميليشيات المسلحة) هما الورقتان اللعينتان اللتان أودتا بالعديد من دول المنطقة المحيطة بمصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة… وهنا لا أترك الفرصة تمضي دون أن أسجل أني أسجد للرب حمدا وشكرا علي حمايته لمصرنا الحبيبة من السقوط في ذلك المصير المهلك بفضل وحدة شعبها العظيم ووقوفه صفا واحدا خلف قواته المسلحة, حتي إن الخرائط التي تتداولها وسائط التواصل الاجتماعي هذه الأيام تظهر مصر وحدها الدولة المحاصرة جغرافيا بالدول التي انشقت وتفتتت وتظل مصر وحدها الدولة التي استعصت علي السقوط, حتي إن القوي الغربية التي تآمرت وتستمر تتآمر علي منطقتنا يجن جنونها من جراء ذلك… وهذا رصيد وطني عظيم لا ينبغي أبدا علي أي مصري أن يقلل من شأنه أو أن ينزلق نحو التفريط فيه.
اليوم.. استكمالا لما دأبت عليه من تقديم شهادات قامات تنتمي للعالم الغربي تفضح السياسات التي تعصف بعالمنا- واتساقا مع ما نتابعه علي أرض السودان, وما يحمله عنوان هذا المقال- أقدم شهادة قيمة لسيدة من أصول أفريقية تعلمت في الغرب وحصلت علي الجنسية الألمانية تقف بكل شجاعة أمام جمع كبير في منتدي عقد في ألمانيا لتفضح التاريخ الاستعماري والممارسات الكارثية التي حاقت ببلدها سيراليون طمعا في ثرواته وغير مكترثة بشعبه ومحطمة لكل مقدراته.
هي السيدة مالينز بارت ويليامز التي تنتمي إلي دولة سيراليون الواقعة في غرب أفريقيا, وأنقل شهادتها وهي تتحدث أمام تجمع تيد إكس/ صالون برلين وأستقطع المحاور الرئيسية لما قالت:
** أنا أجيء من واحدة من أغني بلاد العالم التي تقع في أغني قارات العالم; إنها سيراليون التي تقع في غرب أفريقيا هي بلد مباركة بجمال غير محدود وغني واسع في ثرواتها البرية والنباتية والطبيعية والمعدنية, علاوة علي تعدد مساقط المياه والأنهار والشواطئ فيها.. ولا غرابة بعد ذلك أن تكون بلدي مأهولة بواحدة من أعرق نوعيات السكان الذين يمتلكون إرثا حضاريا وثقافيا عظيما.
** سيراليون تمتلك ثروة كبيرة من الموارد الطبيعية في مقدمتها ما يعد شهوة الملكيات في العالم وهو الماس ومن بعده الذهب, ومن بعدهما نحو عشرين نوعا من المعادن النفيسة, ومن بينها التي تدخل في صناعات الرقائق المستخدمة في إنتاج أجهزة الكمبيوتر والاتصالات, علاوة علي أكبر احتياطي لخام الحديد في أفريقيا والثالث علي العالم, بخلاف ثروة هائلة من أشجار غابات الماهوجني… جميع هذه الموارد الطبيعية جعلت من بلادي مطمعا للعالم الغربي الذي يحتاج بشدة ما تمتلكه من موارد -وهي ليست وحدها في ذلك إنما هي مجرد نموذج للعديد من دول أفريقيا- تلك الموارد التي لا غني عنها لسد احتياجات الثورة التكنولوجية والقوة الاقتصادية والعسكرية والأكثر من ذلك لإسباغ القوة علي عملات ذلك العالم الغربي… العالم الغربي الذي جرد عملاته من غطاء الذهب وأصبح يمطرنا بأوراق بنكنوته المطبوعة الملونة ليأخذ منا في مقابلها ثروتنا من الذهب!!
** من يتأمل الواقع سوف يكتشف أن المعونات التي يتشدق بها الغرب لا تتدفق منه إلي أفريقيا بل علي العكس, هي تتدفق من أفريقيا إلي دول العالم الغربي الذي يعتمد علي مواردها الطبيعية في سد احتياجاته… ومن أجل ضمان استمرار هذا الوضع يتبع العالم الغربي منهجية مقاومة استقرار الدول الأفريقية الغنية وتعويق تقدمها الذاتي وإبقائها في حالة تبعية واعتماد كامل علي مساعداته, وفي هذا الصدد تغرس الحكومات الغربية في عقول شعوبها أن قارة أفريقيا ودولها فقيرة وتحتضر وتعيش شعوبها اعتمادا علي رحمة ومساعدات الغرب الإنسانية لها… بينما الحكومات الغربية تستمر في امتصاص ثروات الشعوب الأفريقية بناء علي مفاهيمها التي تأسست خلال الحقبة الاستعمارية والتي تبيح لها الاستيلاء الرخيص علي ثروات وموارد المستعمرات… فبدلا من أن تقترب الدول الغربية من الدول الأفريقية مسلحة بالنزاهة والشرف وداعية إياها لتدخلا معا في شراكة حقيقية لاقتسام الثروات وتبادل الخبرات وبناء مصالح مشتركة في ظل توازنات الأسواق العالمية, استمرأت أن تغتصب ثرواتها الطبيعية غير مكترثة بصالح أو مستقبل الأفريقيين.
** تضمنت التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي خلال العام الماضي أن ستة اقتصادات ضمن أعلي عشرة اقتصادات في العالم تنتمي إلي دول أفريقية, وذلك بناء علي نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي.
وتجدر الإشارة أيضا إلي أن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك صرح خلال لقاء إعلامي أجري معه مؤخرا بأن علي فرنسا أن تكون أمينة وتعترف أن قدرا غير قليل من الأموال في بنوكها يأتي من جراء أوجه استغلال القارة الأفريقية.. كما صرح شيراك عام 2008 إبان الأزمة الاقتصادية العالمية أنه بدون ما تحصل عليه فرنسا من أفريقيا في صورة ديون المستعمرات المفروضة عليها, حتما كانت فرنسا ستهوي إلي مصاف دول العالم الثالث.
** هذا جزء مما يحدث في عالمنا اليوم.. عالمنا الذي خلقناه اعتمادا علي مبدأ البقاء للأقوي, لكننا للأسف نتجاهل قوانين الطبيعة التي تعلمنا أنه في ظل سيادة قانون النشوء والارتقاء فإن النوع الأقوي إذا استمرأ استغلال النوع الأضعف وفرط في افتراسه وامتصاص دمائه حتما سينتهي الأمر باضطراب ميزان التوازن الذي يحكم الأنواع مما يؤدي إلي انقراض الأضعف وانهيار التوازن ومن ثم هلاك الأقوي.
** إذا لا مفر من إعادة رسم العلاقة بين دول العالم الغربي التي تصنف نفسها بأنها المتحكمة في أمور العالم, ودول العالم الثالث وفي مقدمتها دول أفريقيا التي تحكم عليها دول العالم الغربي بالتبعية بل وبالعبودية… ولعلنا نحتاج إلي تعلم درس عميق من الطبيعة من خلال ما يحدث في بلدي سيراليون وينطبق علي قارة أفريقيا عموما… فالطبيعة التي تفاعلت عناصرها وتحملت ضغوطا رهيبة عبر مئات الآلاف من السنين لم تنجح فقط في إفراز أعتي وأقوي وأثمن المواد الطبيعية, لكنها أيضا أفرزت عناصر بشرية تمتلك مقومات وقدرات هائلة… وبدلا من أن تأتي القوي الاستعمارية -أو الدول المهيمنة علي مقدرات عالمنا اليوم- لتسخر هذه القدرات للمصالح المشتركة بين الشعوب, نجدها تنزلق نحو تأجيج الصراعات العرقية والطائفية والحروب الأهلية في المستعمرات التي غادرتها حتي لا تقوم قائمة لتلك المستعمرات وتظل لقمة سائغة لا حول لها ولا قوة, رهينة لما تجود به الدول الاستعمارية.
*** لست أدري إن كانت هذه الشهادة قد فات أوانها لإنقاذ السودان الشقيق, لكني أستصرخ الوطنية المصرية لعدم التفريط في مصرنا الحبيبة.