أواصل اليوم استعراض شهادات الخبراء حول السياسة الخارجية الأمريكية التي تحكم وتتحكم في الأحداث العالمية التي نعايشها… فهناك من الشهادات المهمة التي تصلح لأن توصف بأنها شهادات تغرد خارج السرب وتفضح حقائق صادمة ومسكوتا عنها في تيارات الإعلام السائدة… وأعرض في هذا الصدد الشهادة التي استضافها برنامج الديموقراطية الآن الذي يحتفل هذا الشهر بمرور 27 عاما علي تأسيسه في عام 1996 والذي يضطلع بالتصدي لما يصفه بالصحافة الشجاعة المستقلة… هذه الشهادة قدمها جيفري ساكس الأستاذ في جامعة كولومبيا, والاقتصادي الشهير, ومؤلف كتاب عصور العولمة.
كان عنوان الشهادة ما هو المسكوت عنه في تيارات الإعلام حيث وجهت إيمي جودمان مقدمة البرنامج السؤال التالي: بخصوص الأحداث الجارية والصراعات مع روسيا وأوكرانيا والصين, ما هي الحقائق التي يجب أن يعيها الناس في العالم الغربي؟… وكان رد جيفري ساكس كالآتي:
** القضية الأساسية تنحصر في أن الإدارة الأمريكية لا تنتهج المسارات الدبلوماسية في التعامل مع القضايا العالمية, لكنها تنزع إلي إشهار الأسلحة وتأجيج الصراعات المسلحة, ولا أدل علي ذلك من الرجوع إلي قضية تايوان التي ترتبط بعلاقات أمريكا مع الصين, ونري كيف لا تتورع أمريكا عن استفزاز الصين بالمضي في تسليح تايوان بالرغم من عدم ضمان سلامتها في هذا المنحي أو سلامة العالم أو حتي سلامة الولايات المتحدة نفسها.
وفي هذا الصدد دعوني أعود بالتاريخ إلي ما قبل ثلاثين عاما, حين انفرط عقد الاتحاد السوفييتي وترسخ في عقيدة القادة السياسيين الأمريكيين أنه بذلك بدأ عصر القطب الأوحد الأمريكي المهيمن علي العالم والذي سيتولي رسم السياسات للعالم ومباشرة قيادته… وأصارحكم القول إن نتائج تلك العقيدة كانت كارثية بجميع المقاييس, فقد تحولت السياسة الأمريكية عبر العقود الثلاثة الأخيرة إلي عسكرة السياسة الخارجية بحيث بلغ رصيد التدخلات العسكرية الأمريكية حول العالم منذ عام 1991 مائة تدخل… وأنا لي شهادة ثابتة خلال السنوات الثلاثين الماضية والتي شهدت عملي في روسيا ودول أوروبا الوسطي والصين وبقاع أخري من العالم وكيف أن أدوات السياسة الخارجية الأمريكية كانت عسكرية بالدرجة الأولي, حيث نزعت إلي تغييب الدبلوماسية وتسليح أيما دول تشاء, علاوة علي المضي في توسيع قاعدة حلف شمال الأطلنطي ناتو غير عابئة بأي تحذيرات صادرة عن دول أخري من أن تلك السياسات تضر بمصالحها القومية… وتمادت السياسة الأمريكية بالاندفاع للحرب وقتما شاءت وأينما شاءت, سواء كان ذلك في أفغانستان أو في العراق أو ضد نظام الأسد في سوريا أو في ليبيا.. والعجيب أنه في ظل تلك السياسات التي تنزع إلي الحروب وتأجيج الصراعات تستمر الإدارات الأمريكية في الادعاء بأنها إدارات محبة للسلام وتعمل من أجل السلام!!!
تلك الإدارات تصدر للعالم أن روسيا والصين هما التهديد لاستقرار العالم وأنهما تمثلان مصدر الشر الذي يحيق بالعالم, وبالتالي لا مفر من الدخول في مواجهات مسلحة وصراعات عسكرية معهما, بينما الحقيقة الخفية أن الإدارات الأمريكية تستشعر صعود كل من روسيا والصين علي المسرح العالمي كقوي اقتصادية وعسكرية منافسة ولا تطيق قبولهما كشركاء, لذلك تصر علي محاربتهما وإبعادهما عن الصدارة.
إن الحرب الروسية الأوكرانية كان من السهل تفاديها باللجوء إلي الدبلوماسية, لو لم يتم تجاهل تحذيرات الرئيس الروسي بوتين من مغبة تمدد حلف شمال الأطلنطي ناتو تجاه البحر الأسود, ونحو جورجيا وأوكرانيا… لقد حذر بوتين أن ذلك التمدد سيكون من شأنه حصار روسيا وتهديد أمنها القومي, ودعا إلي اللجوء إلي المفاوضات الدبلوماسية, لكن الإدارات الأمريكية رفضت الدبلوماسية في إصرار واضح علي تأجيج الصراع والمواجهات المسلحة.
لقد حاولت من جانبي الاتصال بالبيت الأبيض آنذاك في نهاية عام 2021 للتحذير من مخاطر التمادي في توغلناتو نحو الحدود الروسية وعدم حسم مخاوف روسيا عن طريق المفاوضات وما ينطوي عليه ذلك من احتمالات تفجر صراعات عسكرية.. الأمر الغريب أن الإدارة الأمريكية أبلغتني أن المفاوضات ليست مطروحة علي المائدة وليست واحدة من خيارات السياسة الأمريكية (!!).. والآن هذا عينه ما نعايشه من خلال تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية ونتائجها الكارثية.
والآن تستمر الإدارة الأمريكية في اتباع نفس السياسات التصادمية في جنوب شرق آسيا عن طريق بناء التحالفات العسكرية والاستمرار في استفزاز الصين… فها هي نانسي بيلوسي المتحدثة باسم مجلس النواب الأمريكي تزور تايوان بناء علي مباركة الإدارة الأمريكية وضد كل ما تمليه معايير التعامل مع الصين التي أوضحت أن ذلك يمثل أقصي تهديد لوحدة الصين ولأمنها القومي… إن تلك السياسة تنطوي علي روشتة جديدة لتأجيج حرب أخري لا يستطيع أحد أن يتنبأ بنتائجها.
إنني أجد نفسي ملتاعا بينما تحل الذكري الستون لمأساة كوبا (1962) التي كادت أن تشعل حربا عالمية ثالثة… ولا تزال السياسة الخارجية الأمريكية مندفعة بكل حماس نحو إشعال الصراعات العالمية غير عابئة بالمخاطر أو بازدواجية المعايير التي تتبعها.