حتى لا يتحول العيد إلى موسم للاحتفال المجرد من المعنى، والذي يقتصر على تبادل الهدايا، والملابس الجديدة للأبناء، واللقاء مع الأحباء؛ أشجع كل أسرة أن تجلس معًا حول النصوص الكتابية المرتبطة بما نُعيد لأجله. وأحد هذه النصوص المحبب إلينا جميعًا هو ما جاء في إنجيل متى ١: ٢١- ٢٣ عن العذراء مريم: «ستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع؛ لأنه يُخلص شعبه من خطاياهم… وهذا كله لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: ‘هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا، ويدعون اسمه عمانوئيل’ الذي تفسيره الله معنا.» النبوة المشار إليها هنا مأخوذة من إشعياء ٧: ١٤.. والسؤال هنا: تُرى هل ظلت هذه النبوة بلا معنى لمدة ٧٠٠ سنة حتى وُلد المسيح بالفعل في بيت لحم؟ بالطبع لا؛ فإن قراءتنا للأحداث المذكورة في الإصحاحين ٧ و٨ من سفر إشعياء تساعدنا على فهم الظروف التي صاحبت النبوة، وتقودنا لنرى بعدًا أعمق لما قصد أن يقوله البشير متى عندما اقتبس هذه النبوة.
في العهد القديم كانت الأسماء التي تُعطى للأبناء تحمل معنى، ويظل صاحب الاسم يذكِّر الناس بالرسالة التي يحملها اسمه حيثما وُجد. لقد وُلد لإشعياء ثلاثة أبناء، وكان اسم كل منهم يحمل رسالة للشعب في الظروف التي يمرون بها.. الابن الأول اسمه “شآر ياشوب”، والذي يعني “البقية سترجع”، في إشارة إلى قصد الله أن يحفظ المؤمنين به حتى نهاية التاريخ بالرغم من أي ظروف كارثية أو أزمات قد تواجهه. أما اسم الابن الثالث فهو “مهير شلال حاش بز” (٨: ٣)، وكان هذا يُنبئ بسقوط أرام ودمار إسرائيل اللذين تآمرا على يهوذا. ومع أن النص لم يذكر شيئًا بوضوح عن الابن الثاني لإشعياء “عمانوئيل”، لكنه، مثل الابنين الآخرين، كان آية أعطيت لتؤكد معية الله مع الشعب.. “سأكون معكم كأفراد وكأمة في وسط كل الظروف التي لا تستطيعون مواجهتها بمفردكم.” لقد كان هذا الوعد بحضور الله في وسط الأزمات، وعندما يسود الخوف، هو إعلان محوري عن طبيعة شخص الله في العهد القديم.. فلاهوت الاسم “عمانوئيل” يعني أن حضور الله مع شعبه يعطي الرجاء والإمكانية التي تذهب أبعد من حدود ما نراه أو نتوقعه للمستقبل.
بهذه الخلفية النبوية، كتب البشير متى ليعلن لنا مع ميلاد «يسوع» عن المهمة التي جاء إلى العالم من أجلها.. «يُخلص شعبه من خطاياهم»؛ وليؤكد أن «عمانوئيل» جاء ليُظهر لنا طبيعة الله وتفاعله مع شعبه؛ حيث يملأ الفراغ البشري فيما نعجز عن عمله أو مواجهته. لم يقصد البشير بهذا الاقتباس أن يؤكد فقط على الميلاد العذراوي للمسيح، ولا أن يعلن فقط أن ميلاده جاء تتميمًا للنبوات؛ لكنه بعمق وإيجاز عبَّر عن لاهوت التجسد في كلمتين: “الله معنا!”
في ملء الزمان وُلد عمانوئيل في ظروف ضاغطة صعبة، كما عرفت العذراء مريم حقيقة ما كانت ستختبره من آلام في واقعها الجديد، لكن بشارة الميلاد حوّلت خوفها وقلقها إلى فرح وقوة بوعد معية القدير! المواعيد الإلهية تجدد القوة والعزيمة بينما نكمل مسيرة غربتنا في هذه الحياة، لكنها لا تغيبنا عن حقيقة ما قد تتضمنه الأيام من سيف قد يجتاز في النفس، مثل الذي اجتاز في نفس العذراء مريم.
في هذا العيد أدعو كل أسرة أن تقضي وقتًا ولو قصيرًا، ربما حول مائدة طعام العيد، لتقرأ ترنيمة العذراء في إطار ما نعانيه اليوم من أزمات في عالمنا وبلادنا وبيوتنا.. فلعل هذه التسبحة تُفجر في داخلنا نفس الفرح الذي عبَّرت عنه بهذه الكلمات الرائعة: «تعظم نفسي الرب بالرغم من الظروف، وتبتهج روحي بالله لأنه مخلصي.. لأن رحمته التي كانت مع آبائنا ممتدة لتكون مع جيلنا حتى اليوم، وجيل أبنائنا في الغد. الله الذي أظهر قوته معي يهلك المتكبرين في قلوبهم، وينزل الجبابرة عن عروشهم؛ لكنه يرفع المتضعين، ويشبع الجياع بخيرات، ويصرف الأغنياء فارغين.» (قراءة شخصية لأجزاء من تسبحة العذراء مريم.)
والروح القدس الذي حل على مريم العذراء، وظللها بقوة العلي، هو نفسه الذي عمل في حياة الرسول بولس، فكتب إلى كنيسة فيلبي رسالة فرح.. كتبها وهو في قلب السجن والمعاناة. وقد استخدم الرسول كلمة “فرح” في أشكالها اللغوية المختلفة ست عشرة مرة ليعلمنا كيف يمكن أن يكون لنا فرح حقيقي في المسيح يسوع بالرغم من الظروف. فبينما كان مقيدًا بسلاسل، وقد أوشكت حياته على الانتهاء، حدثنا عن إيمانه وثقته بالمسيح، وكيف تغيرت وجهة نظره عن المعاناة (فيلبي ١ :١٢- ١٤). ووسط كل هذا نسمع هتافه: «افرحوا في الرب كل حين».. ثم يختم الرسالة بإعلان إيمان يخاطبنا اليوم، وكأنه يرى من بعيد ما نمر به من ضيق: «فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع»(فيلبي ٤: ١٩). لعلنا نتجاوب هذا العام مع نداء الملائكة لنا بأن نفرح بميلاد المسيح من خلال التأمل في المكتوب في رسالة فيلبي، والحياة طبقًا له.
“عمانوئيل” منذ القديم مع شعبه، “عمانوئيل” معنا اليوم في ظروفنا، “عمانوئيل” سيستمر معنا إلى منتهى الأيام.. وإن كان الله معنا، فأي ضغوط اقتصادية، أو أزمات مادية أو صحية، يمكن أن تكون علينا؟
وكل عام وأنتم في ملء البركة والخير..