يعلمنا القديس بولس قائلا:المحبة حليمة مترققة…وهي تعذر كل شيء, وتصدق كل شيء, وترجو كل شيء, وتصبر علي كل شيء(اكورنثوس13: 4-7). يحكي عن الراهب أنسطاسي من القرن الرابع الميلادي الذي كان لديه نسخة من الكتاب المقدس يقدر ثمنها في ذلك الوقت بنحو ثماني عشرة قطعة من الذهب, وفي أحد الأيام زاره شخص وسرق هذه النسخة. وبعد رحيله كان الراهب يبحث عن الكتاب ليقرأ فيه, ولكنه لم يجده, فأدرك أن الزائر أخذه منه دون استذان, ففكر في أن يذهب إليه ويصارحه بكل محبة, لكنه شعر بعدم الفائدة من هذه المحاولة, وكان يخاف أن يقع في الكذب بجانب السرقة. وبعد عدة أيام عرض الضيف غير الأمين الكتاب للبيع, وطلب فيه ست عشرة قطعة ذهبية, وبالفعل حضر إليه رجل يرغب في ذلك, ولكنه طلب منه أن يعطيه الكتاب بعض الوقت ليتأكد إن كان يستحق هذا الثمن أم لا. فأخذه المشتري وذهب به إلي الأب أنسطاسي الذي سرق منه ليستشيره فلما رآه عرفه وتأكد بأنه كتابه المفقود, وإذ لم يرد أن يفضح السارق قال:هذا كتاب ممتاز ويستحق الثمن المطلوب, فعاد المشتري إلي السارق قائلا له:هذه هي القطع الذهبية التي طلبتها مني, لقد استشرت الراهب أنسطاسي لخبرته, وأكد لي بأن الثمن مناسب,. فدهل السارق وهو يسمع هذه العبارة, ثم سألهألم يقل لك شيئا آخر؟ فأجابهولا كلمة فتعجب أكثر لأنه اكتشف محبة الراهب اللامتناهية, ولم يفضح أمره, وبناء علي ذلك ضحي بكتاب ثمين كهذا! لذلك تأثر جدا بهذا الحب, وتيقظ ضميره قائلا للمشتريلقد غيرت رأي ولن أبيع لك هذا الكتاب, ثم انطلق مسرعا إلي الأب أنسطاسي, والذي رفض بشدة أن يأخذ منه الكتاب قائلا له بكل لطف:امض بسلام, وكن هادئ البال, واقبله كهدية مني لكنه لم يمض, فقد أنارته المحبة بقوة عظمتها, حتي أن هذا الموقف غير مسيرة حياته.مما لا شك فيه أن المحبة هي أعظم فضيلة تغسل النفوس وتقربها من الله. كم من الأشخاص الذين يطلبون غفران الله لهم كل لحظة وكل يوم, في حين أنهم لا يتنازلون ويغفرون لغيرهم ولو أقل الهفوات, لذلك أمرنا السيد المسيح بأن نسامح للآخرين, ليس مرة أو اثنتين بل سبعين مرة سبع مرات, وهذا يعني أن نسامح إلي مالا نهاية. من ذا الذي يستطيع أن ينظر إلي أعمال الآخرين بالرحمة؟ هل نحكم علي تصرفاتهم بنظرة إيجابية فقط؟ هناك خط فاصل يحقق لنا هذا الهدف, ألا وهو رؤية العين, لأن الذي يحب حقا يتحلي بعين بسيطة صالحة تري كل ما هو جميل وخفي في حين أن الذي يكره يغلق عينيه عن كل ما هو خير وجميل.فالإنسان الفاضل والمحب يكتشف الصلاح في الآخرين وينظر إلي فضائلهم, كما أنه لايتوقف عند ماهو سلبي في تصرفات الغير, بل يذهب إلي أبعد من هذا ليخرج كل ما هو صالح بداخلهم ليصلح من حياتهم بمحبته وغفرانه لهم. فكل إنسان في استطاعته أن يتحلي بالحنان والرحمة في قلبه,ليعامل بهما الآخرين ويساعدهم علي الفيام برسالتهم في هذه الحياة علي أكمل وجه, بدلا من أن يتركهم ينغلقون علي ذواتهم نتيجة ما يتعرضون له من برودة وجفاء وسوء معاملة. مما لا شك فيه أن عدم الرحمة وفقدان الحنان مع الناس, لايثمران إلا البغض والحقد, لأنهما يهدما كل شيء ويضعان مسافة وحواجز بين القلوب. في حين أن اللطف واللين والرحمة تجتذب القلوب , وتطفئ الأحقاد وتنشر الود والحب والفرح بين الجميع. كم كان الحب سببا في رجوع الكثير من النفوس الضالة إلي الطريق الصحيح, وساعد أشخاصا علي التخلي عن العنف واكتساب فضيلة الوداعة. لذلك يجب علينا ألا نحكم علي تصرفات الآخرين لأننا لا نعلم ما بداخلهم, ولا ندري بالظروف التي يمرون بها, بل نبدأ في تقديم العون لهم ومساعدتهم للنهوض من غفلتهم ثم يحيون حياة فاضلة بعيدة عن كل ما هو مشين, فالإنسان الطيب يقبل الآخرين بعيوبهم ويأخذ بيدهم للنهوض بهم ومساعدتهم للوصول إلي الهدف السامي الذي ينتظره منهم, ونختم بالقول المأثورالأحقاد تقتل وتفني, والمحبة وحدها تصفح وتبني وتفجر الخير والسلام والسعادة بين البشر.