عبر سنين طويلة مضت وهناك الكثير من الجهود الفكرية والتجارب الفردية والمبادرات المجتمعية التي شهدها المجتمع المصري, والتي اهتمت علي نحو رئيس ومباشر بدعم مبدأ المواطنة وترسيخ ثقافة الحوار, وما يرتبط بهما من قيم أخري مثل الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي والتسامح وقبول الآخر والعيش المشترك والديمقراطية والعدالة الاجتماعية, وغيرها من قيم إيجابية, مقبولة ومطلوبة, بين المواطنين المصريين بعضهم بعضا, علي الرغم من تنوع الانتماء الديني والثقافي والفكري فيما بينهم, ما ساهم في بناء الوعي بالذات وبالآخرين, حيث يتنوع المواطنون المصريون في انتمائهم الديني- علي نحو رئيس- بين مسلمين ومسيحيين, وإن كانت هناك انتماءات أخري. ومن جانب آخر العمل علي مواجهة التطرف والتشدد وانتشار خطاب الكراهية ورفض الآخر ومحاولات استبعاده وإقصائه.
لقد برزت هذه الجهود/ المبادرات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر, بشكل واضح وصريح, منذ نهايات القرن التاسع عشر, واستمرت طوال القرن العشرين, ومازالت مستمرة إلي اليوم, خلال سنوات القرن الحادي والعشرين, حيث إن هناك جهودا كثيرة, يمكن يرصدها هنا علي مستويين رئيسيين:
المستوي الأول: في مجال الإبداع المعرفي والفكري والإنتاج الأدبي والفني, الأمر الذي يتجلي من خلال الكتابات الصحفية في الجرائد والمجلات والمواقع الصحفية الإلكترونية, بالإضافة إلي عدد غير قليل من المؤلفات, وتأليف الأشعار والأزجال والقصص القصيرة والروايات الأدبية, وإنتاج المسلسلات الإذاعية والتليفزيونية والأفلام السينمائية والأعمال المسرحية, كما تظهر أيضا في عقد الندوات التثقيفية وتنظيم المؤتمرات العلمية.
المستوي الثاني: في مجال العمل المؤسسي, حيث أن ثمة جهودا كثيرة ومتنوعة عنيت باقتراح وتأسيس كيانات معنية بمبدأ المواطنة وثقافة الحوار, خرجت من رحم منظمات المجتمع المدني, حيث الجمعيات والمؤسسات الأهلية والأحزاب السياسية والمراكز البحثية والنقابات المهنية وغيرها, بالإضافة إلي جهود محترمة ومقدرة قامت بها المؤسسات الحكومية من خلال عدد من الوزارات, فضلا عن جهود المؤسسات الدينية, الإسلامية والمسيحية.
ولعل من يقرأ تاريخ المصريين, القديم والحديث والمعاصر, يكتشف كيف أن الكثير من الأفكار والآراء تعيش في حالة لجاج ونقاش وأخذ ورد, لفترة طويلة من الوقت, ربما لعشرات السنين, حيث يناقشها المثقفون والمفكرون في وسائل الإعلام والمنتديات الفكرية مرة ومرتين وأكثر, دون أن تدخل هذه الأفكار والآراء مرحلة التنفيذ, ربما بسبب تحديات وعقبات ذات طبيعة ثقافية واجتماعية.
من تلك الأفكار تأتي الفكرة الخاصة بإنشاء مركز لدراسات الوحدة الوطنية في مصر ومواجهة الأزمات والتوترات ذات الخلفية الدينية, أو بتسمية أخري مركز دراسات المواطنة وحوار الثقافات.
في جريدة (الأهرام) كتب الباحث المعروف والكاتب الصحفي الأستاذ نبيل عبدالفتاح, مدير مركز الأهرام للدراسات التاريخية والاجتماعية سابقا, وكان قد أشرف علي تحرير (تقرير الحالة الدينية في مصر) وأصدر منه عددين, سلسلة مقالات ناقش فيها حالة الطائفية الاجتماعية في المجتمع المصري وسبل مواجهتها, وهو في الحلقة الثالثة والأخيرة من تلك المقالات, والتي نشرت يوم الخميس 24 سبتمبر 2009م, وتحت عنوان في مواجهة الطائفية الاجتماعية وأزماتها.. ما العمل؟ (3/3), اقترح مجموعة من الحلول والمعالجات الوقتية في وقت الأزمات إلي جانب حلول أخري طويلة المدي, وهي في مجملها أفكار مهمة تستحق الانتباه والاهتمام والمناقشة.
لقد اقترح الكاتب في سياق كلامه تأسيس مراكز للإنذار المبكر للوقاية من النزاعات أو الصراعات الدينية والمذهبية, ويضيف وهو ما سبق لنا اقتراحه أمام مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في أواخر عقد التسعينيات, وتم الأخذ به في توصيات المؤتمر الذي عقد في استكهولم للخبراء, كما إنه اقترح إعداد دراسات عن تاريخ الأزمات الطائفية وأسبابها, عن السياسات الدينية, والخطابات الدينية, لوضع استراتيجيات لإصلاح التعليم الديني والمدني.
ومن يقرأ تاريخ مصر الحديث بعناية ودقة يكتشف أن هذه الفكرة هي فكرة قديمة, إلا أنها تتجدد وتعاود الظهور بين الحين والآخر, ربما مع بعض الاختلاف في صياغة الفكرة وأسلوب عرضها وبعض التفاصيل وآليات التنفيذ, مع اختلاف السياق الزمني والظرف التاريخي والإطار المجتمعي المصاحب لعرض الفكرة, السياسي والاقتصادي والاجتماعي, ما يمكننا تتبعه خلال مجموعة من المقالات, تختص علي نحو أساسي, برصد الجهود والمبادرات الخاصة بالنشاط الفردي والعمل المؤسسي, الذي استهدف دعم مبدأ المواطنة وترسيخ ثقافة الحوار بين المواطنين المصريين بعضهم بعضا, ما قد يساعدنا في تقديم رؤية مستقبلية تنطلق من الماضي وتتعاطي مع ظروف الحاضر, غرضها تحقيق الخير العام والصالح العام للمجتمع المصري ومواطنيه.