منذ نحو خمسة شهور وتحديدا في 26 يونيو الماضي, كتبت في هذا المكان تحت عنوان محافظة القاهرة تدشن مشروع كايرو بايك.. فأين تسير الدراجات؟!!.. حيث استعرضت ملامح مشروع طموح لإتاحة وسيلة تنقل حضارية هادئة خالية من التلوث والانبعاثات الضارة بالبيئة, هي الدراجة, وذلك بتوفير محطات للدراجات في شوارع بعض الأحياء ـ المرحلة الأولي لها تتضمن وسط القاهرة والزمالك وجاردن سيتي ـ بحيث يتاح للمواطنين ترك سياراتهم أو الاستعاضة عن وسائل المواصلات الأخري واستعمال الدراجات في قضاء مصالحهم في الأحياء المذكورة مع مرونة الحصول علي الدراجة وإرجاعها عبر أي من المحطات المخصصة لذلك, ونظير سداد قيمة التعريفة المحددة للساعة.
وكنت أشرت آنذاك إلي بعض الملاحظات التي برزت مع الإعلان عن المشروع الطموح, أولها ملاحظة طريفة تخص اسم المشروع.. فبدلا من تسميته دراجة القاهرة باللغة العربية, اختارت محافظة القاهرة اطلاق التسمية بالإنجليزية كايرو بايك عوضا عنها في مدلول واضح علي الاجتياح الأجنبي لكافة مرافقنا ومؤسساتنا ومتاجرنا وغيرها من الأنشطة والمنتجات… لكن ما من شك أن مكمن الإحباط في انزلاق محافظة القاهرة, المؤسسة الرسمية التابعة للدولة, في ذلك المنحي الذي يعكس واقع تراجع وتآكل اللغة العربية أمام سطوة اللغات الأجنبية.
لكن بجانب التباكي علي اللغة العربية تعرضت إلي تساؤلات كثيرة تبحث عن إجابات.. أولها, وهو ما عكسه عنوان ذلك المقال: أين تسير الدراجات في شوارع الأحياء المنتخبة كمرحلة أولي للمشروع؟.. حيث رصدت تجارب الدول الأوروبية التي سبقتنا في مثل تلك التجربة وكيف أنها تولت تأمين استخدام الدراجات بتخصيص حارات خاصة بها بين أرصفة المشاة وطرق حركة السيارات وما يتبع ذلك من ترسيخ ثقافات وسلوكيات وأخلاقيات للحركة الآلية في الشارع تسمح باحترام حقوق كل من المشاة وراكبي الدراجات نحن نفتقدها وبدونها لا يمكن أن يكتب النجاح لذلك المشروع.
ثم عادت محافظة القاهرة لتعلن أن المرحلة الأولي من المشروع سوف تنطلق في سبتمبر الماضي ـ وهو ما لم يحدث ـ وذلك عقب استكمال عدد 26 محطة تشملها المرحلة, معلنة أنه تم الانتهاء من تركيب 5 محطات بميادين عبدالمنعم رياض والتحرير والفلكي ومحمد فريد وشارع عبدالخالق ثروت ـ وهو ما لا يوجد مؤشر دامغ عليه حتي تاريخه ـ وكانت الإشارة الوحيدة لأحد ملامح المشروع صورة تداولها رواد مواقع التواصل تشير إلي اقتطاع حارة من أحد الشوارع التي يبدو أنها في وسط القاهرة وتحديدها بفواصل معدنية مثبتة في الأسفلت وملونة باللون الأصفر مع دهان أجزاء من الحارة باللون الأخضر المطبوع عليه رمز الدراجة باللون الأبيض في إشارة واضحة إلي أن هذه الحارة الفاصلة بين طريق السيارات ورصيف المشاة مخصصة للدراجات.
تلك كانت الإرهاصة الأولي التي تنبئ بأنه جار تخصيص حارات لحركة الدراجات توطئة لتفعيل مشروع كايرو بايك.. لكن تظل هناك هواجس وتساؤلات كثيرة تبحث عن إجابات قبل الترحيب بهذا المشروع ومن بينها الآتي:
** الصورة المتداولة تقتصر علي ما يشير إلي مسار حارة الدراجات الموازي للشوارع, لكن ماذا عن التخطيط المحدد للتعامل مع التقاطعات؟.. وما هي الأولويات المتاحة للحركة؟.. السيارات أم الدراجات أم المشاة؟
** كتبت مسبقا عن الانفلات الذي يحكم الشارع المصري, وأن ما يجب أن يسبق المبادرة التي نحن بصددها أن يتم ترسيخ أولويات وأخلاقيات الحركة بين المرور الآلي وبين حركة المشاة, وهو الأمر الغائب تماما في شوارعنا, فالقاعدة المعاشة هي المرور للأقوي أي أن علي المشاة أن يقبلوا صاغرين التراجع أمام حركة السيارات حتي لو كانت إشارة عبور المشاة تسمح لهم بالعبور, وذلك ببساطة لأن الواقع البائس في شوارعنا يفتقر إلي مراقبة القانون وتفعيله ويغض البصر عن انفلات قائدي السيارات واعتدائهم علي حقوق المشاة.. فالمشاة مطالبون بالانتظار حتي يتوقف تدفق السيارات في الاتجاه المتعامد علي عبورهم الطريق, ثم عليهم الانتظار حتي يتوقف اندفاع السيارات الملتفة يمينا أو يسارا والتي يتوجب عليها انتظار عبورهم كمشاة ولكن ذلك لا يحدث ولا يراقب ولا يمنع ولا يحاسب!!!… فأين من ذلك كله سيتم تأمين حركة الدراجات؟!!
** وسط كل هذا الانفلات وتلك الفوضي والحركة العشوائية المتروكة تستفحل وتشكل سلوكيات راسخة مسكوتا عنها… ماذا عن حركة الدراجات البخارية؟!!.. إنها كارثة بجميع المقاييس يعايشها من يرتاد منطقة وسط القاهرة علي الأقل إن لم يكن ذلك يسري علي الزمالك وجاردن سيتي… لقد بات الانفلات أمرا واقعا في شوارع وسط القاهرة, فالدراجات البخارية تتلوي بحركات بهلوانية بين السيارات, تبحث عن مسافات مستحيلة للمرور, فإذا أعيتها الحيل تستبيح أن تقتحم أرصفة المشاة وتنطلق عبرها غير عابئة بالمشاة وأمنهم وكأنها تلعنهم لتعويق حركتها!!
وطبعا لا تسألوني عن موقف رجال المرور المنتشرين في شوارع وسط القاهرة, والذين يبتلعون هذا الانفلات وتلك الفوضي ولا يتدخلون لإيقافها حتي باتت أمرا واقعا يفرض نفسه ضمن سلوكيات قائدي الدراجات البخارية… فكيف بالله عليكم تتصورون أن يتم كبح جماح قائدي الدراجات البخارية ومنع اقتحامهم أرصفة المشاة, ناهيك عن منعهم من اقتحام حارات الدراجات!!!
*** هذه بعض الهواجس التي تعتمل في نفسي إزاء مشروع كايرو بايك الذي يبدو أنه لا يستوفي مقوماته الحضارية اللهم إلا من خلال التصاقه الشكلي بتسميته الإنجليزية… لكن الشواهد تقول عن المشروع: أبشروا.. فات القليل ما بقي إلا الكتير!!… وطبعا لا يفوتني أن أنوه أننا في انتظار صدور الخرائط الدالة علي الشوارع التي تتضمن حارات الدراجات, علاوة علي أماكن المحطات التي تخدم هذا المشروع.