الخجل ظاهرة إنسانية مألوفة، وكل مألوف يبدو طبيعيًا وبسيطًا وموضع تسليم، ومع ذلك فإن الخجل، كغيره من الظواهر الإنسانية، لا يخلو من التعقيد، إنه سمة أو سلوك أو حالة تخضع لتقديرات متباينة تترواح بين الفضيلة والشعور بالخزي. وكلها أمور نسبية تختلف من شخص لآخر، ومن ثقافة لأخرى ومن نظام قيم لآخر. وتختلف النظرة للخجل باختلاف المنظور الذي نراه من خلاله، فمن المنظور الديني حيث يُعد الخجل (أو الحياء) من الفضائل بل شعبة من شعب الإيمان، ومن منظور علم النفس، فإنه أقرب للخلل االنفسي الذي يعوق القدرة على التواصل والتفاعل الاجتماعي، وبالنسبة للثقافة الشعبية يبدو الخجل من الظواهر السلبية التي تعكس نوعًا من الضعف الاجتماعي، ومن منظور النوع الاجتماعي، فإن خجل الرجال عادة ما يوصف على أنه “ضعف”، أما خجل النساء فعادة ما يضاف إلى مزايا “الحسن والعفاف”.
ومن الواضح أن الدلالات اللغوية للخجل كاشفة لأبعاده النفسية والقيمية إلى حد كبير، فكلمة الخجل وفق لسان العرب لابن منظور تعني التحير والدهش (من الاستحياء)، وعندما يُقال “خجل البعير خجلًا: سار في الطين فبقى كالمتحير”. ويخجل الإنسان عندما يأتي بفعل يستحي منه، والإنسان الخجِل يبقى ساكنًا لا يتحرك ولا يتكلم، وهو ما يعرفه علم النفس بـ “الكف الاجتماعي” وفقدان القدرة على التفاعل الاجتماعي.
وفي كتاب “الموجز في اللغة العربية” فإن الخجل مُدرج في فصل الحياء، فالسمة الفُضلى هي الحياء وبها ترتبط مفاهيم الحشمة والاحتشام والخَفر [يمكن ملاحظة أن جميعها مفاهيم مشحونة بدلالات قيمية وخاصة بالنسبة للنساء]. وعلى ما يبدو أنه يمكن التمييز بين الخجل بوصفه (حالة) والحياء بوصفه (سمة)، فالخجل يتبدى في سياقات معينة مرتبطًا بأعراض نفسية وجسدية، حيث نقول “علت وجهه حُمرة الخجل”، و”ذهب وهو يمسح جبين الخجل”، و”أطرق رأسه من الخجل”، و”اعتقل لسانه من الخجل”. وهذه الحالة قد تكون أكثر حدة عندما يشتد الخجل فيُصبح إحساسًا بـ”الخزي”، والذي يعني أن الشخص اشتد حيائه لأمر قبيح صدر منه.
وعادة ما يتم التعبير عن الخجل بكلمات أخرى لها دلالاتها الخاصة، مثل الحرج والكسوف، فكلمة الحرج تعني الإثم، أما كلمة كسوف فهي من كسوف الشمس، بمعنى ذهاب ضوئها وتحولها إلى السواد. وهكذا فإذا كانت كلمات الحياء والحشمة والخفر ذات دلالات إيجابية بالمعنى القيمي وتُستخدم للتعبير عن سمات، فإن كلمات الخزى والحرج تحملان معان سلبية وتعبران عن حالة في سياق محدد، ويتوسطهما الخجل والكسوف، وكلاهما يمكن أن يميل للمعنى الإيجابي في سياق معين وللمعنى السلبي في سياق آخر.
ومن المنظور الفلسفي، يعتبر بعض الفلاسفة في أن الحياء فضيلة وخُلُق، ويختلف آخرون، لكن بالنسبة لعلماء النفس فإن مفهوم الفضيلة ليس موضع اهتمام، فالمسألة تتعلق بالثقة بالذات والقدرة على التفاعل الاجتماعي، ولذلك فإن تعريف الخجل في مجال علم النفس يرتبط بمفاهيم الارتباك والتوتر والقلق والرهاب الاجتماعي.
ومن ذلك تعريف الخجل، بأنه نزعة شعورية بالتوتر والقلق وعدم الكفاءة أثناء مواقف التفاعل الاجتماعي. وهكذا يبرز مفهوم “التفاعل الاجتماعي” كمحدد لقياس الخجل وتعريفه.
وفي ذلك يقول رأي كروزير في كتابه “الخجل” أن “الشخص الخجول عادة ما يسلك مسلكًا دفاعيًا، إذا ينأى بذاته عن مواقف التفاعل الاجتماعي والتواصل مع الآخرين، ويكره أن يعبر عن آرائه وأن يُبدي اختلافه مع آراء الآخرين، ويحرص دائما أن يكون في خلفية الصورة بعيدا عن الآخرين”.
وعلى الرغم من الإقرار بصعوبة وضع تعريف يستوفي أبعاد ظاهرة الخجل، إلا أن إمكانية وصفه وتصنيفه باتت ممكنة، فعلى سبيل المثال ثمة تمييز بين الخجل بسبب الخوف من التعامل الغرباء وخاصة في المراحل العمرية المبكرة، والخجل بسبب الخوف من تقييم الآخرين للذات، كما أن هناك خجل بسبب انتهاك قواعد اجتماعية أو أخلاقية كأن نستشعر أننا قمنا بفعل مُخجل أو مُخزي، وهي مسألة نسبية مرتبطة بالسياقات والتنشئة، والخجل بسبب إحساس الشخص بأنه دون المستوى المُتوقع [خجل التقييم].
وفي كل الأحوال فإن الخجل يظل، في الأغلب الأعم، في إطار العلاقة الوجدانية مع الذات، أي اعتقادات الشخص وتصوراته عن ذاته وحكم الآخرين عليه، وهو بذلك يختلف ظواهر أخرى مثل الحسد والغيرة والتي تتشكل كعلاقة وجدانية مع الغير.
ومن هنا يأتي التداخل أو الارتباط بين الخجل والشعور بالذنب. وفي هذا وصف الدكتور روبرت تايسون أستاذ علم النفس والفلسفة الخجل، قائلًا: “إن الخجل يجعلك تقضي معظم وقتك وأنت تنتظر أن يلومك أحد على تصرف ما! فأنت عندما تخجل تخشى من كل تصرفاتك، وتتوقع أن يراجعك الناس فيها، وتتناسى الحقيقة الكامنة وراء هذا الخجل: أنك تخاف من نفسك!”.
وبالنسبة للثقافة الشعبية، بطبيعتها العملية والبرجماتية، يبدو الخجل من الظواهر السلبية اجتماعيًا أكثر من كونه فضيلة أخلاقية، فميراث الأمثال الشعبية ينتقد السلوكيات الخجولة، مثلًا “اللي يتكسف من بنت عمه ما يجبش منها عيال”، و “الحق مافيهوش كسوف”، و”صاحب الحق عينه قوية”، و “الغجرية ست جيرانها”، و”الخشا في الرجال عيب”. وحتى المثل الشعبي المعروف “اللي اختشوا ماتوا”، والذي عادة ما يُستخدم لنقد الشخص الذي لا يستحي، فإن الروايات حول أصل المثل تفيد بعكس ذلك، حيث تعود قصته لحريق حدث في أحد حمامات النساء الشعبية، فمن خرجن من الحمام عرايا نجون، ومن منعهن حيائهن من الخروج احترقن. ومع ذلك، فكما لا تحبذ الثقافة الشعبية الخجل، فإنها لا تحبذ الوقاحة وارتكاب العيب، وذلك على طريقة المثل القائل “تدب في عينه رصاصة”، و”راحت رجال العز والهيبة وقعدت رجال ما تخشى العيبة”.
وأخيرًا، فإن محدد النوع الاجتماعي يفرض نفسه، وخاصة في السياقات الثقافية والاجتماعية المحافظة والتقليدية، فمن المعروف أنه كلما زادت الفجوة بين الرجال والنساء في مفاهيم العيب والاحتشام، كلما انعكس ذلك على المتوقع من كل منهما فى مجال الحياء والخجل، وطالما أن النساء هن الأكثر استهدافا بمفاهيم العيبوالعورة، فعليهن أن يكن الأكثر حرصًا على الخجل والحياء، ومن المتوقع من النساء أن يكن خجولات وذوات خفر، واعتبار هذا من لوازم الحسن الجمال والعفة والشرف.
ومع ذلك فإن التغيرات الاجتماعية وتغير أحوال النساء حدث اضطراب في نظام القيم الحاكمة، ولعل الخجل والحياء من أكثر الظاهر السلوكية اضطرابا، وهي الأكثر عرضة للخلط والأحكام وسوء الفهم والتقدير. وكما أُرتكبت جرائم بحق نساء لأن “السكوت علامة الرضا”، فإن كثيرات من نساء الحاضر يتعرض للضغط والعقاب بسبب الرفض وعدم السكوت.