يعتبر الصبر من أكثر القيم التي أكدت عليها الأديان والمعتقدات، ومن أكثر الكلمات التى ترددت فى الأغانى والمواويل والأمثال الشعبية، ومن أهم المفردات التى تتصدر الدعوات والتمنيات وقت المحن والشدائد، كما أنها مصدرا لأسماء الناس من الجنسين فى المجتمع المصري [صابر وصابرة، صبرى وصبرية، وعبد الصبور]، وفي بعض البلدان العربية نجد صبار. وحتى القدماء المصريون استخدموا أسماء الصبر، فكما تشير بعض المصادر فإن اسم “واح-ايب” يعنى “صابر”، و”صبور”. وعلاوة على ذلك فإن عبارات مثل “الصبر مفتاح الفرج”، “الصبر طيب”، و”الصبر جميل” من أشهر المأثورات الشعبية. والصبر متعدد الأبعاد، فهو سمة فردية من منظور القدرة على التحمل، وقيمة دينية من منظور الطاعة، وضرورة اجتماعية من منظور التكيف والتعايش. وقد يكون الصبر سمةنمتلكها، ومهارة نتعلمها، ولكن ايضا مدد خارجى نحتاجه ونسأل الله أن يلهمنا إياه.
ومن حيث التعريف اللغوي، فإن الصبر يعنى بالأساس حبسالنفس عن الجزع والهلع، وفى المعجم الوسيط يقال: صَبَرَ على الأمر: احتمله ولم يجزع. والصبر كذلك عُصَارَةُ شَجَرٍ مُرٍّ تُسْتَعْمَلُ فِي الطِّبّ، وثمة صلة وثيقة بين هذه المرارة ومعنى الصبر، فكما نقول أن الصبر جميل أو طيب من حيث نتائجه، فإنه مر وشاق من حيث تجرعه، والصبر فى الحالتين دواء للشدائد والأمراض والفقدان. وبهذا المعنى فإن الصبر يعني تحمل الشدائد والنوائب ومرارة الواقع، وبشكل عام فإن التعريفات اللغوية للصبر ترتبط بدلالات الكلمة في الموروث الديني حيث يعد الصبر قيمة إيمانية ودلالة على الطاعة وحبس النفس عن فعل المعاصى والانقياد وراء الشهوات، والرضا بالأقدار.
وبالمعنى الاجتماعي، فإن الدلالة العامة للصبر كتعبير عن المثابرة والقدرة على التحمل تظل هي الحاكمة، ولكن هناك اختلاف عن المعنى الديني، وذلك أن الصبر فى مفهومه الاجتماعى لا يرتكز على مبدأ الطاعة الطوعى وحبس النفس بقدر ما يعنى استراتيجيات وضرورات التكيف مع الأزمات والأوضاع الصعبة والمحن. ولذلك، فإذا كان الصبر فى معناه الدينى قيمة إيمانية، فإن الصبر بمعناه الاجتماعى ضرورة حياتية وخاصة عند الفئات الأضعف. وهذا ما نجده فى الأمثال الشعبية، حيث يكون الهدف من الصبر تحقيق غايات متعددة، ومن ذلك: “اصبر على جار السو.. يا يرحل يا تيجى له داهية” أو ” لو صبر القاتل ع المقتول كان مات لوحده”، وهو ما يعنى التريث؛ وكذلك الدعوة للأمل والتفاؤل: “الصبر مفتاح الفرج”، “اصبر على المر يجى الحلو”؛ والمثابرة: “طول البال يهد الجبال”، والحكمة: “اصبر على الأرض”، “اصبر على الحامى تاكله بارد”؛ والاحتياج: “صبرى على خلى ولا عدمه”، وهكذا. وفى الثقافة الشعبية فإن الصبر حاسم فى علاج سوءات وصعوبات الحياة: “كل شئ دواه الصبر.. لكن قلة الصبر مالهاش دوا”؛ ومع ذلك، ولأن الثقافة الشعبية فيها التنوع والتعدد، فنجد فيها ما يعتبر الصبر بلا طائل كما يقول المثل: “ما ورا الصبر إلا القبر”.
ويرتبط مفهوم الصبر عضويا بالزمن، وبالحياة والموت، فهو باب الأمل فى الحياة، ومؤنس القبور بعد الموت، فالصبار، مثل سعف النخيل، من النباتات التى يُعتقد أنها تكفر عن الذنوب. وهذا الطقس، كما يقول الباحث فى الدراسات الشعبية فارس خضر فى كتابه “ميراث الأسى”، وسائل تكفيرية تخفف من عذاب القبر، مرجعه استبشار الجماعة الشعبية بالنخيل الذى وضعت أسفله مريم العذراء السيد المسيح عليه السلام.. وينسحب هذا التفسير على النباتات الصحراوية مثل “الصبار”.
ومن منظور النوع الاجتماعى، هناك اختلافات بين صبر الرجال وصبر النساء، وهى أمور مرتبطة بعمليات التنشئة الاجتماعية ومن ثم التصورات الاجتماعية والثقافية لأدوار الجنسين، وكما يقول أحد الباحثين [السيد حافظ الأسود: الصبر فى التراث الشعبى المصرى] فإن الصبر كنمط سلوكى بالنسبة للنساء يرتبط بـ”العطاء”، و”الرضا”، و”العفاف”، و”الشرف”، أما بالنسبة للرجال فإنه يرتبط بـ”الشجاعة”، و”الجلد”، و”المسئولية”. وهكذا يسهم الصبر فى حماية نظام القيم الاجتماعية، لأن نفاذ الصبر قد يفضى إلى الإخلال بما يعتبره المجتمع قيما أساسية، ومن ثم اختلال النظام الاجتماعى وتعرض من ينفذ صبره للعقاب والجزاء. وهكذا، مثلا، باسم الصبر، تتكيف النساء على أوضاع زواجية تعيسة، لأن عدم الصبر يعرضهن للأسوأ اجتماعيا. وعادة ما ينسب الصبر للرجال، وقصة “ناعسة وأيوب” ذات دلالة فى هذا الصدد، فالشائع أن الصبر هو “صبر أيوب”، وليس “صبر ناعسة”، مع أن صبرها كان طوعا وصبره كان كرها. ومع ذلك فإن الفن الشعبى لم يتجاهل “صبر ناعسة” بل استحضره بوصفه قيمة أخلاقية للمرأة المثالية التى تحمل قيم الوفاء والعطاء والعفة، يرد في الموال الشعبي: “ياما جرى لأيوب على حكم الزمان.. وبنت عمه [ناعسة] ع البلاوى صابرة.. وبنت عمه من الأصول الطيبيين… لا يوم شكت ولا الخال درى.. ولا يوم هانته.. خايفة على العرض السليم من المعيرة”.
وتبقى ملاحظة أخيرة وهى أن الصبر فى الخطاب الدينى قيمة دالة على الطاعة والإيمان، وفي مجال الفولكلور تعبير شعبى عن القدرة على التكيف والتعايش، وفى المجال الاجتماعى مفهوم وظيفى يتصل بحفظ النظام وعمليات الضبط الاجتماعى، ولكن الملفت أن مفهوم الصبر، رغم أنه سمة شخصية ونفسية، لا يبرز كثيرا فى مجال علم النفس والتحليل النفسى، وربما يرجع ذلك إلى أن هذا المفهوم الأخلاقي والاجتماعى لا يصلح كأداة لمعالجة القدرة النفسية على مواجهة الضغوط والأزمات، أو لأن مجال التحليل النفسى يرتكز على “التفريغ” وليس “حبس النفس” وهو المعنى اللغوي والدينىلمفهوم الصبر.