بطبيعة الحال أظل منشغلا بتطورات الحرب الروسية الأوكرانية منذ اندلاعها في فبراير الماضي وتداعياتها الخطيرة علي النظام العالمي سواء في صراع الأقطاب المتنافسين علي قيادة العالم سياسيا وعسكريا, واقتصاديا, أو في انقلاب موازين الطاقة والتجارة العالمية وانفجار موجات التضخم وانفلات الأسعار, علاوة علي إعادة تشكيل مراتب العملات العالمية.. الأمر الذي بات ينذر ـ بل يؤكد ـ بإعادة تشكيل النظام العالمي الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية بموجب اتفاقية بريتون وودز عام 1944 والنظام العالمي للعملات الذي حل محلها 1973 وخلال معايشتي تطورات الحرب الروسية الأوكرانية حرصت علي أن أنقل للقراء مختلف وجهات النظر التي تحدث توازنا مع الطوفان السياسي والإعلامي القادم من الغرب ـ وأعني بذلك الخطاب الرسمي الأمريكي وتوابعه من المجموعة الأوروبية ـ ولعلي في هذا الصدد أشير إلي ما سبق أن كتبت بتاريخ 13 مارس الماضي تحت عنوان: ماذا يقول أمريكيون عن اجتياح روسيا لأوكرانيا؟ وما كتبت بتاريخ 12 يونيو الماضي تحت عنوان: الحرب الروسية الأوكرانية.. ماذا يقول هنري كيسنجر؟.
اليوم أواصل نقل ما وصلني الأسبوع الماضي علي لسان اثنين من الخبراء السياسيين والاستراتيجيين الأمريكيين والذي يحمل مدلولات مهمة علي تقييم الوضع الذي بلغته هذه الحرب والوزر السياسي والعسكري والتاريخي الواقع علي من فجرها… وتجدر الإشارة هنا إلي أنني أوليت أهمية لما أدلي به ثعلب الدبلوماسية الأمريكية العجوز هنري كيسنجر أمام المنتدي الاقتصادي العالمي الذي عقد في دافوس بسويسرا في مايو الماضي, حيث خلص بعد تحليله لكافة الجوانب أنه علي جميع الأطراف أن تجلس علي مائدة المفاوضات للاتفاق وإنهاء الأزمة في غضون شهرين ـ من تاريخه ـ قبل أن تتداعي اضطرابات وتوترات يصعب التغلب عليها.. وها نحن علي وشك انقضاء فترة الشهرين, والواضح أن هناك عنادا وإصرارا أمريكيا أوروبيا علي المضي في هذه الحرب اللعينة حتي آخر جندي أوكراني..!!.. صحيح أن شر البلية ما يضحك, لكن تعالوا معي نري ماذا يقول خبراء استراتيجيون في هذا الأمر:
** في محاضرة أمام معهد شيللر الدولي قال خبير استراتيجي أمريكي: أوكرانيا خسرت الحرب.. صحيح أن الحرب مستمرة, لكنها خسرتها, ودعوني أوضح لكم كيف.. لقد أصبحت هذه الحرب بمثابة مبارزة بسلاح المدفعية, روسيا تطلق خمسين ألف قذيفة يوميا وهو ما يصل إلي عشرة أضعاف ما تطلقه أوكرانيا.. صحيفة واشنطن بوست تقول إن ذخيرة أوكرانيا نفدت تقريبا ولا يوجد لديها ما يعوضها عتادها السوفييتي.. في 10 يونيو الماضي أحصت الصحيفة ضحايا أوكرانيا من جراء الحرب, حيث بلغ الرقم ألف ضحية يوميا متضمنا مائتي قتيل.. هذا العدد من الضحايا تضاعف في غضون ثلاثة أسابيع فقط, ومع عدد سكانها القليل أوكرانيا تخسر نحو ستة آلاف جندي يقتلون شهريا.. هذا الرقم يضارع اثني عشر ضعفا لما خسرته أمريكا في فيتنام.. الأوكرانيون قاتلوا بشجاعة لكن لا توجد أمة علي وجه الأرض تتحمل هذا الكم من الضحايا لفترة طويلة.. أوكرانيا انتهت.
** جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاجو الأمريكية يقول: الصراع الدائر في أوكرانيا هو كارثة هائلة وسوف يقود الشعوب في أنحاء العالم إلي البحث عن أسبابها, لكن أولئك الذين يؤمنون بالحقائق والمنطق سيكتشفون سريعا أن الولايات المتحدة وحلفاءها هم المسئولون بشكل أساسي عن هذه الكارثة, حيث إن القرار الصادر في أبريل 2008 بضم كل من أوكرانيا وجورجيا إلي حلف شمال الأطلنطي الناتو كان سيعود لا محالة إلي تفجير صراع مع روسيا.. إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش كانت المخطط الرئيسي لهذا الخيار المشئوم, لكن الإدارات اللاحقة للرؤساء أوباما وترامب وبايدن أصرت بدورها علي اتباع هذا الخيار, وحلفاء أمريكا حذوا حذوها.. ورغم أن قادة روسيا أوضحوا تماما أن انضمام أوكرانيا للناتو سيكون تجاوزا لكل الخطوط الحمراء إلا أن الولايات المتحدة رفضت بكل بساطة استيعاب أعمق مخاوف روسيا الأمنية وبدلا من ذلك تحركت بكل إصرار وبلا كلل لجعل أوكرانيا معقلا غربيا علي حدود روسيا.. الحقيقة المأساوية هي أنه لو لم يتبع الغرب سياسة توسع الناتو في أوكرانيا فإنه كان من المستبعد أن تكون هناك حرب في أوكرانيا اليوم, وكانت ستبقي شبه جزيرة القرم جزءا من أوكرانيا.. خلاصة القول إن واشنطن لعبت الدور الأساسي في قيادة أوكرانيا إلي طريق الدمار والهلاك, والتاريخ سوف يدين الولايات المتحدة وحلفاءها بقسوة مفرطة جراء سياستهم هذه التي تعد بالغة الحمق فيما يتعلق بأوكرانيا.
*** سوف أوالي بكل اهتمام متابعة مثل هذه الآراء لتقييم الحرب الروسية الأوكرانية حتي لا نكون مغيبين عما تؤول إليه الأحداث وعما يقبل عليه عالمنا.