يضع الأقلام زرقاء في جيبه ويأخذني معه إلي السوق.. يضعني أمامه علي العجلة في طريق لا يستغرق خمس دقائق ولكنه يقطعه في ربع ساعة بعد أن يطرق أبواب الجيران لعلهم يحتاجون شيئا من السوق.. بينما ألعب أنا في جرس العجلة الصيني..
يدردش مع بائع التفاح فيخبره البائع عن أولاده في الدراسة.. بينما يدفع عمي أنسي الحساب.. يخرج الأقلام من جيبه ويعطيها للبائع قائلا: أقلام فرنساوي أصلي لكي يكتب بها أولادك في الامتحان.. تلاحقه دعوات البائع بينما يحمل أكياس التفاح ويمضي.. يقابل صديقه فيصر الأستاذ أنسي علي دعوته للمنزل, وإذ يعتذر, يقرر أن يعطيه تفاحة أو اثنتين وهو يضحك قائلا: اتسلي بيهم في السكة لحد ما توصل..
يتكرر الأمر مع صديق ثان وثالث ورابع.. حتي نصل إلي المنزل.. ليتحول الكيس من 5 كيلو تفاح إلي كيلو واحد فقط.. أعلم ما سيحدث لاحقا عندما تكتشف زوجته الأمر.. فيخبرها ضاحكا: مش أنت قلتي هات نص كيلو.. وهو يضع في جيبي قطعة شيكولاته حتي لا أفتن عليه.. تضحك زوجته وهي تنظر لي وأنا آكل الشيكولاته دليل الرشوة.. فقد تزوجته علي عيبه.. وعيبه كان الكرم الشديد..
تسأله.. وماذا سنقدم للضيوف اليوم؟ فيخبرها أنه سيصنع كيكة تليق بهم..
تقترب الساعة من السادسة مساء.. يجلسني معه في البلكونة بالدور الأول وهو يأكل قطعة من الكيكة السخنة.. بعدها بدقيقة يمر سائق حنطور أسفل العمارة.. فيشير له عمي قائلا: اتفضل.. فيجيبه: يزيد فضلك.. يخبره أن ينتظر قليلا بينما يضع قطع الكيكة في (السبت) وينزلها له من البلكونة.. يتعجب سائق الحنطور من الموقف ولكنه يأخذ الكيكة وينصرف بينما أسمع دعواته لعمي مستمرة حتي بعد دخوله الشارع الجانبي.. أسأل عمي: أتعرفه؟.. فينظر لي قائلا: لا, ولكنه مر في الصباح حزينا والآن أيضا هو حزين.. يبدو أنه لم يسترزق اليوم!..
أضحك لأني أعرف ما سيحدث لاحقا من زوجته عندما تكتشف أنه حتي الكيكة قدمها للغرباء.. ولم يبق شيء للضيوف.. لذا أتسلل من منزله وأعود إلي بيتي وأنا أسمعه يناديني ضاحكا: كده تسيب عمك يا جبان..
لم تكن تصرفاته غريبة علينا.. عرفناه قويا علي نفسه بطريقه يتعجب البعض منها.. أخبر زوجته أنه سيذهب إلي القاهرة في مأمورية عمل لمدة أربعة أيام.. جهزت له الشنطة وسافر.. ليعود لها محمولا علي سيارة الإسعاف لتكتشف أنه لا توجد مأمورية وإنما قد ذهب إلي المستشفي بمفرده وأجريت له عملية استئصال المرارة.. بدون أن يخبر زوجته ولا إخوته الخمسة ولا حتي أمه.. عاش يحمل آلامه لنفسه (فكله شايل همومه ومحدش مستحمل حد) كما كان يقول.. ولكنه لم يتوقف عن مشاركة آلام الآخرين.. هو أول من يحضر في المستشفي للسؤال, وآخر من يرحل في الجنازات بعد أن يطمئن أن أسرة المتوفي قد أكلت من الأكل الذي صنعه..
كبرت أنا وسافرت.. وأصبحت تفصلنا 500 كيلومتر ولكن اهتمامه بي كان يجعلني أشعر أنه في الشقة المجاورة..
هو إنسان عرف كيف يضحك علي الحياة ويضحك منها.. ويضحكنا في وسط همومنا.. ويفرحنا في وسط متاعبنا..
حتي في موته.. لم يرد أن يتعبنا معه.. استيقظ صباحا وشعر بألم في صدره, أحس أنه قد تعب من الدنيا واشتاق إلي الأحبة.. ليرحل لهم فجأة..
بلا كلام ولا سلام ولا وداع.. رحل في صمت.. ليسكت الفم الضاحك إلي الأبد ويصمت رقم تليفونه عن الرنين ويختفي صوت جرس عجلته من الشوارع.. ويتركني بلا سند يواسيني في الطريق..
رحل دون أن أخبره أنه أجمل ما تمت كتابته في صفحة حياتي..