أواصل اليوم متابعة ورصد التغيرات التي تحدث في العالم جراء تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا والتي تشير بقوة إلي أن العالم مقبل علي إعادة تشكيل النظام العالمي أملا في وضع حد لهيمنة القطب الواحد واستعادة توازن استراتيجي متعدد الأقطاب, قد يبدأ بتقليم أظافر التسلط والغطرسة, وقد يتطور إلي الحنين إلي الوفاق والتعاون… وهذه بعض ملامح التغيرات الجاري رصدها:
** الصين: هذا ما أدلي به خبير اقتصادي صيني استضافته قناة الجزيرة: اليوم مع خبر قرار السعودية بيع نفطها بالعملة الصينية اليوان- وإذا تبعتها بقية دول الخليج- فإن ذلك ينبئ بأفول نجم الدولار والذي يعني بداية أفول الإمبراطورية الأمريكية, ويبدو أن العداء السعودي للحزب الديمقراطي الأمريكي وللرئيس بايدن بالذات نتيجة تصريحاته حول قضية مقتل جمال خاشقجي علاوة علي تناغم الحزب الديمقراطي مع سياسة إيران في المنطقة العربية, يضاف إلي ذلك ذكريات السعودية مع إهانات الرئيس الجمهوري الأمريكي السابق ترامب عندما قال للسعوديين: ادفعوا مقابل حمايتنا لكم فلم نعد نحتاج نفطكم, فإن العداء السعودي لسياسات بايدن الحالية وإهانات ترامب السابقة لن يتوقف عند موقف السعودية من الحرب الروسية الأوكرانية ورفضها تعويض نقص النفط العالمي الناتج عن فرض الحصار الغربي علي روسيا, بل ستتبعه خطوات بدأت بإعلان السعودية بيع نفطها باليوان الصيني ضمن اتفاقية وقعتها مع الصين, مما يعني أن تربع الصين علي عرش الاقتصاد العالمي بات مسألة وقت لا سيما مع قفزات عملاقة للصين في استثمارات عبر العالم مثل إعادة إحياء طريق الحرير الذي ينقل الصناعة الصينية إلي كل بقاع المعمورة, وكذلك هناك أمثلة كثيرة علي ريادة الصين وتقدمها وتحولها من مجرد محاك للتكنولوجيا الغربية إلي دولة سباقة في مجال التكنولوجيا… بدءا بصناعة القطار المغناطيسي فائق السرعة, والسيارة الكهربائية التي أرعبت عمالقة صناعة السيارات الأوروبية, ومعالجة الفحم لإنتاج مصدر أكثر نظافة للطاقة, وتوليد الطاقة الكهربائية من المصادر النظيفة كالرياح والشمس والسدود, وأخيرا أعجوبة الشمس الصناعية, وليس أدل علي ذلك أيضا من تحقيق الصين قفزات هائلة في مجال صناعة الطيران المدني لتنهي احتكار بوينج الأمريكية وإيرباص الأوروبية للسوق العالمية للطيران المدني… ولا يمكن إغفال إنجازات العملاق هواوي في تقنية G-5 لسرعة الإنترنت, ومجالات المدن الذكية, والسيارات والحافلات ذاتية القيادة بدون سائق, والتفوق في التصنيع العسكري من معدات وصواريخ وطائرات وأقمار صناعية وأسلحة ليزر وغزو للفضاء… وغيرها الكثير والكثير الذي نعرفه والذي لا نعرفه والذي يؤكد أن التنين الصيني بات قاب قوسين أو أدني من إزاحة ماما أمريكا من المشهد, وأن الحرب الروسية الأوكرانية قد تكون من نتائجها إنهاء عصر الوفاق العالمي وعلاقات الود الصينية الأوروبية لاسيما مع ألمانيا وفرنسا ومعهما معظم دول أوروبا, وإنهاء عصر قيادة أمريكا التي ثبت أنها لم تعد رأس الحربة للذود عن أوروبا وحمايتها, وأن علي دول أوروبا التحرر من الاتفاقيات والقيود التي كبلتها طويلا من جانب أمريكا وحالت دون الانطلاق نحو تأسيس علاقات اقتصادية وشراكة مع الصين.
*** يتضح مع ذلك كله أن الصين تعمل جاهدة لإدراك عالم متعدد الأقطاب لا تحكمه أمريكا وحدها التي تلوح بين الحين والآخر بسلاح العقوبات وتطبقه وفقا لأهوائها وأجندتها السياسية مزدوجة المعايير.
** روسيا: بينما كان المتوقع اتخاذ الروس قرار قطع إمدادات الغاز الروسي عن أوروبا ردا علي العقوبات الاقتصادية وإجراءات المقاطعة التي انساقت فيها المجموعة الأوروبية وراء أمريكا, اتخذت روسيا بدلا من ذلك قرار بيع الغاز الروسي مقابل عملتها الروبل بدلا من الدولار أو اليورو… القرار يعلي قيمة الروبل أمام الدولار واليورو ويترك أوروبا أمام أحد خيارين: إما الاستغناء عن الغاز الروسي, وهذا أمر شبه محال, أو الاستجابة للقرار الروسي الذي من شأنه هز عرش الدولار وإدخال الروبل إلي أسواق العملات العالمية.
وكرد فعل لقيام أمريكا بإخراج روسيا من نظام سويفت للتعاملات البنكية حول العالم, لجأت روسيا إلي توجيه مدفوعاتها عبر الدول التي تحظي معها بعلاقات استراتيجية إلي مسارات بديلة, ومثال علي ذلك الصين عبر استخدام نظام سيبس للدفع عبر الحدود بين البنوك باليوان الصيني, وبرغم أن هذا النظام أصغر كثيرا من نظام سويفت إلا أنه يمكن الاعتماد عليه مستقبلا لتقليص تأثيرات المقاطعة الأمريكية والأوروبية في مدفوعات روسيا والصين… هذا بالإضافة إلي اتجاه روسيا لتنشيط تفعيل نظام المراسلة المالية الروسي إس.بي.أف.إس المستخدم داخل روسيا والذي أسسه البنك المركزي الروسي عام 2014 علي أثر تهديد أمريكا أول مرة بفصل روسيا عن سويفت علما بأن هذا النظام بدأ استخدامه عام 2017 ووصل مستخدموه إلي أكثر من 400 مؤسسة مالية روسية بعد عام واحد من إطلاقه, ثم سعت روسيا إلي ضم دول حليفة للنظام مثل تركيا وإيران, علاوة علي ربط النظام بأنظمة دفع في الصين والهند ودول الاتحاد الاقتصادي اليورو-آسيوي… وإذا كان هذا النظام لم يرتق حتي اليوم إلي نظام سويفت فبالنظر إلي الأحداث الجارية قد تسفر جهود روسيا عن مولد نظام مالي عالمي مواز متعدد الأقطاب كبديل للنظام الحالي الذي يتعرض لفقدان الثقة نتيجة تطويعه سياسيا… كما تجدر الإشارة إلي أن روسيا وإيران تبحثان في الوقت الحالي استخدام البطاقة المصرفية الروسية مير في السوق الإيرانية بعد انسحاب سائر شركات بطاقات الائتمان الغربية من السوق الروسية… وأخيرا حملت الأنباء خبرا مؤداه أن صربيا تدرس عقد اتفاقية لاستيراد الغاز الروسي مدتها عشر سنوات في مقابل السداد بالعملة الروسية الروبل.
*** وهكذا يتضح أنه في الوقت الذي خططت أمريكا وشركاؤها -ولا أقول توابعها- الأوروبيون لتركيع روسيا وإلحاق أشد الأضرار بها وإخراجها من السوق العالمية, ها هي روسيا تتحدي جميع هذه الإجراءات وتؤسس المسارات والأنظمة والمؤسسات والتحالفات البديلة التي تسمح لها بأن تعيد تشكيل النظام العالمي علي معايير تعدد الأقطاب واحترام الآخر سواء ترغيبا أو ترهيبا!!