** لم تكن مريم الشابة المنفتحة للحياة, الطموحة في مواصلة تعليمها, الحاملة بمستقبل مشرق, تتصور ولو للحظة واحدة أنه يمكن أن تدخل في غيبوبة فتضيع معها كل أحلامها, ويفرض عليها ألا تغادر البيت حتي لا تفاجئها نوبة تشنج في الطريق, والأكثر أنه لم يكن لها علاج ينقذها ويعيد لها حياتها المفقودة, ومضت بها الأيام وحالتها تزداد سوءا مع عناد القدر, ومن يومها ونحن معها نقدم لها كل العلاجات التي تخفض من آلامها وتحافظ علي استقرار حالتها.
** الأمور لم تقف عند هذا الحد.. ظهر الجديد الأكثر قسوة.. البداية كانت بسيطة ظهرت في خراج لكن سرعان ما تحول إلي ناسور شرجي.. لم ننزعج كثيرا فخبرتنا مع حالات سابقة علمتنا أنه من الإصابات الشائعة التي يسهل علاجها بجراحة بسيطة, لكن مع مريم لم يكن الأمر سهلا ولا بسيطا.. وأدركنا فيما بعد من قسوة ما عانته مريم أن الرب كان يختبر قوة إيمانها, وقوة تحملنا.. وبشكر حملت مريم ثقل صليبها في أكبر وأصعب عمليتين جراحتين.. وبشكر واصلنا رحلتنا معها.
** مع الطبيب الجراح لم يكن الناسور واضحا علي سطح الجلد وهو ـ كما فهمناـ أنه عبارة عن أنبوب يظهر بشكل غير طبيعي كحلقة وصل بين أحد الأعضاء وبين المكان الذي يظهر فيه, وهو في حالتنا (الشرج) ولهذا كان لابد لتشخيصه استخدام المناظير والموجات الصوتية لتحديد عمق قناة الناسور واتجاهها, ومن بعدها بدأت الجراحة.. كنا في مثل هذه الأيام من شهر سبتمبر عام ..2017 وكما علمنا أنه أستخدم أحدث التقنيات الجراحية (Fistulatom), والتي تبدأ بقطع الفتحة الموجودة بالداخل في قناة الناسور, ثم تنظيف وتطهير الأنسجة الميتة الملوثة والموجودة داخل الناسور, وكان من المتعين أن ينتهي الأمر بغلق المكان نهائيا.. لكن مع مريم كانت قناة الناسور متورطة في العضلة الشرجية بشكل كبير, ولم يكن هناك حل إلا ربط القولون بسلك يمتد إلي خارج الشرج ويثبت في الفخذ وعادت مريم إلي زنزانتها.. أقصد بيتها.
** يوم بعد يوم وشقيقتها الأرملة التي تكفلت برعايتها تقوم بشد السلك وتنظيفه وإعادته حتي لا يثبت في الفخذ.. لم يكن هناك من حل طبي آخر إلا تحويل مسار البراز وهو ما رفضته.. رحلة عذاب يومية امتدت 3 سنوات إلي أن استيقظت ذات صباح علي آلام مبرحة, وارتفاع في درجة الحرارة إلي حد الحمي, ورعشة في كل جسدها المترحل. وأسرعنا بها إلي مستشفي السيدة العذراء بالزيتون.. لم نكن وحدنا.. كانت شفاعة العذراء بالزيتون.. لم نكن وحدنا.. كانت شفاعة العذراء المؤقتة تظللنا.. وعناية الله تحيط بنا.
وفي حجرة العمليات خضعت مريم لمشرط الدكتور النابغة أشرف أبادير الذي استأصل الناسور, وأعاد كل الاشياء إلي طبيعتها.. وعادت لنا كلمات بولس الرسول إلي مؤمن روما ترن في أذاننا كل الاشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله.