- مطران سمالوط: ثقلني الله بوضع رؤية عامة لإحداث نهضة في الايبارشية تشمل كل أبناء سمالوط
سمالوط.. نقطة مهمة على مسار العائلة المقدسة.. إيبارشية عمرها لا يزيد عن 45 سنة، لكن فيها كنوز وبارك المسيح أرضها من آلاف السنين.
تحسسنا الخطى ونحن نكتب عن الجذب السياحي لصعيد مصر، من حيث حال المباني الأثرية والمناطق المحيطة بها، ووضع الطرق المؤدية، الفنادق التي ستستضيف السياح، وسكان المناطق المحيطة بالنقاط السياحية ومدى جاهزيتهم لاستقبال زوار في أماكنهم، والكثير من التحديات التي نقف أمامها حتى يكون هذا المسار جاهز لاستقبال السياح.
بقعة من بقاع المنيا على الخريطة المصرية بدأت من العدم والفقر والجهل والمرض ومرت سنوات الكفاح ورؤى التطوير حتى أصبحت منارة للجذب السياحي في صعيد مصر وباتت باكورة الاستثمار السياحي على مسار العائلة المقدسة.
“وكان الرب معه وحيثما كان يخرج كان ينجح” هكذا كان هوشع في العهد القديم أما في عصرنا الحديث تخرج الطبيب الذي ترك العالم وقصد طريق الرهبنة ليصبح طبيباً معالجاً لكل الأمراض المستعصية في سمالوط – جزء من الصعيد في قلب مصر. ثقله الله بوضع رؤية عامة لإحداث نهضة شاملة لكل مجتمع سمالوط فاكتسب حب المسيحيين والمسلمين. لاشك انه انسان مخلص جدا لمصر ويستعين بخبراء متخصصين في كل مجال من المجالات، وهذا هو سر نجاحه.. هو صاحب المدرسة التي أخرجت لنا شهداء العصر الحديث للكنيسة القبطية.. شهداء الإيمان والوطن في ليبيا.. هذا ما لمسته وطني في زيارتها لسمالوط على أرض الواقع لتلمس تطوير ثاني أهم نقطة بحسب تصنيف اليونسكو من نقاط مسار العائلة المقدسة، بعد دير المحرق بأسيوط.
وكان لوطنى حوار مع نيافة الحبر الجليل الأنبا بفنوتيوس مطران سمالوط وطحا الأعمدة، لتفتح ملفات عديدة عن خبرته وسر نجاحه في خدمته للمجتمع المصري بسمالوط.
الأنبا بفنوتيوس الطبيب الجراح.. من أين جاءت فكرة الرهبنة؟
في الطفولة من خلال الاستماع إلى السنكسار بالكنيسة وقراءة سير القديسين، اعترتني الغيرة المقدسة في التشبه بهم. ثم بدأت التردد على الأديرة من عمر 16 سنة، أولا كزيارات ثم حضور صلوات أسبوع الآلام بالدير، إلى أن وصل الأمر إلى قضاء خلوات كثيرة أثناء فترات الإجازات الصيفية بالأديرة. وهذا ولد بداخلي ارتياحاً للحياة الديرية. ومن هنا الرغبة تتحول إلى قناعة عقلية وقرار بأنه إذا كان هناك عمر أعطاه لي الله، فإنني سوف أحياه معه من خلال حياة الرهبنة بما فيها من الانعزال عن العالم وكل ما فيه من إغراءات، للارتباط بالله وخدمة كنيسته من خلال حياة الصلاة. مثلما قال بستان الرهبان ” الانحلال من الكل والارتباط بالواحد” وهو نفس الفكر بالسنكسار الذي يتم قراءته في الكنيسة كل يوم، أن كل من دخلوا الرهبنة عبر الزمن بدءاً من الانبا انطونيوس عندما شاهدوا الحياة وزوالها زهدوا فيها ورأوا ان الالتصاق بالله انفع بكثير. فأي استثمار للعمر أعظم من هذا؟! وأيهما أعظم وأكثر قيمة لحياتي – أن أقضي عمري في عملي كطبيب – هذا العمل الذي يعمله ملايين البشر أم أن ألتصق بالله وأتمتع بالعشرة معه والإتحاد به؟ فأخترت طريق الرهبنة للاتحاد بالله.
الملفت أنني كنت أول طبيب بشري يدخل الرهبنة، ثم بدأ اخرين يدخلون الرهبنة، والأن أصبح في مجمع الأساقفة ما لا يقل عن ١٥ أسقفاً من أصل أطباء.
اختبارك مع ثلاث بطاركة في حياتك؟
عايشت الكنيسة في عهد ثلاثة بطاركة.. أتذكر وأنا طالب وكنت أحب حضور صلوات عشية وقداسات لقداسة البابا كيرلس بالمرقسية القديمة بكلوت بك، ولا أنسى أنني في يوم حضرت عشية عام ١٩٦٧ وتصادف تلك الليلة أن البابا كيرلس كان يقيم سيامة المتنيح الأنبا فيلبس مطران الدقهلية والمتنيح الأنبا اندراوس مطران دمياط فكانت ليلة فيها بركة عظيمة. ودائما كنت حريصا على التواجد اثناء زيارة قداسته إلى كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة وهي الكنيسة التي كنت اتردد عليها وقت صبايا. لقد عايشت البابا كيرلس وعايشت منهجه وأسلوبه وتعلمت منه الكثير.
أيضا عايشت المتنيح قداسة البابا شنودة منذ كان أسقف للتعليم من سنة ١٩٦٢ إلى أن أقيم بطريركاً، وكنت أتردد على دير السريان أكثر من باقي الأديرة فكنت أقابل الأنبا شنودة أثناء وجوده كأسقف للتعليم. اتذكر يوم كنت انا وبعض الخدام في مكتب الأنبا شنودة وذهبنا معه لحضور إجتماعه الأسبوعي في مدرج صغير بالأنبا رويس، وفي هذا اليوم زاد العدد جداً من الحضور فاقترح التوسع للانتقال للقاعة المرقسية، ومن هذا اليوم توسع اجتماعه وأصبح بالقاعة المرقسية. هو أقيم بطريركاً في نوفمبر ١٩٧١، وانا دخلت الدير يناير ١٩٧٢ وكنا نتقابل في دير السريان معاً كلما حضر الى الدير. وعندما عملت لنفسي قلاية خارج الدير كنا في مربع واحد: أنا وقداسة البابا شنودة والأنبا صارابامون والأنبا بيشوي، لذا كان لنا تواصل وكنا مقربين لبعض عندما كنت راهباً وعندما أصبحت أسقفاً أيضا.
ومرت الأيام وكملت أيام خدمة قداسة البابا شنودة، وربنا أعطى الكنيسة قداسة البابا تواضروس الثاني، فهو إنسان نقي القلب “حسب قلب الله” كما قيل عن داود النبي.
توليت إيبارشية وليدة سنة ١٩٧٦م هل كان الأمر سهل أم كان بمثابة شق في الصخر؟
بعد ٤٥ سنة في ايبارشية سمالوط، عندما يحضر أساقفة تمت سيامتهم حديثاً أقول لهم أول شئ يجب عمله في خدمة الإيبارشية أن تكون لكم رؤية للمكان الذي كلفتهم بخدمته.. فبدون بصيرة ورؤية للمكان تصبح الخدمة مجرد مرور أيام ليس لها معنى. وبالتالي هذا ما فعلته انا وقت رسامتي أسقفاً على سمالوط، بأني درست المنطقة.
كيف درستم الحالة العامة لسمالوط ولمعرفة الاحتياجات الروحية والرعوية والاجتماعية لأبناء الإيبارشية؟
عقب تكليفي بالخدمة كأسقف في ايبارشية سمالوط عام 1976 م درست وضع الإيبارشية ولاسيما أنها ايبارشية وليدة، إذ أنها كانت جزء من ايبارشية المنيا، وأنا كنت أول أسقف أكلف بالخدمة بها بعد إعلانها كايبارشية منفصلة، بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي كانت تمر بها البلاد في ذلك الوقت عقب سلسلة من الحروب انهكت البلاد جداً اقتصادياً.
فصليت وطلبت من الله أن يرشدني لرؤيته ومشيئته لهذه الايبارشية، وبدأت في التحرك وافتقاد كنائس الايبارشية لدراسة الاحتياجات الروحية والرعوية والاجتماعية للشعب على أرض الواقع.
وبالفعل أشكر الله على نعمته ومحبته الذي ارشدني إلى احتياجات الشعب في المجالات الأتية..
أولاً على المستوى الروحي والرعوي، الكنائس كانت قليلة جداً من حيث العدد وصغيرة جداً من حيث المساحة والإمكانيات الإنشائية بالنسبة لعدد المسيحيين بالايبارشية. كذلك عدد الكهنة كان قليلا جداً بالنسبة لاحتياج الشعب روحياً وخدمياً ورعوياً.
ثانياً على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، الشعب كان يعاني من ظروف مادية صعبة جداً.
ثالثاً على المستوى الصحي، كان مستوى الخدمات الصحية بالمستشفيات الحكومية غير صحي وغير انساني اطلاقاً.
رابعاً على المستوى التعليمي، كانت الأمية سائدة ومستوى التعليم بالمدارس الحكومية كان سيء والفصول مكدسة بالتلاميذ، والمستوى الاجتماعي والاخلاقي كان يحتاج لاهتمام خاص.
خامساً على المستوى الترفيهي، لم يوجد أي مكان في نطاق الايبارشية تستطيع أي أسرة الخروج إليه للترفيه عن أنفسهم وسط ضغوط ومشاكل الحياة، بحيث يكون مكاناً راقيًا وآمنًا ورخيصًا.
ماذا تحقق من رؤيتكم لتنمية سمالوط على كل تلك المستويات؟
ثقلني الله بوضع رؤية عامة لإحداث نهضة وتطوير في الايبارشية وألا تكون هذه النهضة قاصرة فقط على أبناء الكنيسة بالايبارشية، بل تشمل كل أبناء سمالوط مسيحيين ومسلمين، فهذه رسالة الكنيسة للعالم، أن تكون نوراً للعالم وملحاً له، وهذه محبة الله التي سكبها في قلوبنا بروحه القدوس تجاه العالم كله.
هذه الرؤية للنهضة والتطوير كان يجب أن تكون في كل المجالات السابق ذكرها، بحسب ترتيب أولوياتها لنا..
على المستوى الرعوي، بدأت في وضع خطة لإحداث نهضة معمارية وإنشائية في بناء كنائس جديدة وعلى مساحات كبيرة تكفي أبناء الايبارشية لعقود قادمة. واختيار وإعداد كهنة جدد بصورة جيدة ودقيقة جداً لخدمة هذه الكنائس.
اخترت مجموعة من الشباب ليتم الحاقهم بالمدارس الاكليريكية، لاسيما النهارية – لما فيها من تفرغ وتركيز. لذا عبر ٤٥ سنة وصلنا إلى نسبة عالية جدا من الدارسين بالاكليريكية أي 30% من إجمالي الدارسين من سمالوط، هذا يعطيني الفرصة لاختيار أفضل الشخصيات التي تصلح للخدمة، ومن هنا قمنا بإعداد جيل رعوي يمكن أن ينهض بخدمة المنطقة والشعب.
وعلى مستوى السياحة الدينية، يوجد بالايبارشية عدة أماكن أثرية بالايبارشية مثل دير القديسة العذراء مريم بدير جبل الطير الذي هو أحد أهم محطات زيارة العائلة المقدسة إلى مصر، وكنيسة مارمينا بقرية طحا الأعمدة ترجع إلى القرن السادس الميلادي، وكنيسة القديس أبسخيرون القليني بقرية البيهو والتي تم نقلها بمعجزة عظيمة وقت الاضطهاد في القرن السادس عشر الميلادي تقريباً من قلين بمحافظة كفر الشيخ إلى قرية البيهو في سمالوط بالمصلين الموجودين بها وبئر الماء.
تم الاهتمام بهذه الأماكن وترميمها بأحدث الوسائل والإمكانيات مع توفير كافة وسائل الراحة للسائح القادم للزيارة، من فندق إقامة على أعلى مستوى بدير القديسة العذراء مريم دير جبل الطير، إضافة إلى بيوت خلوة بسعة ٤٠٠ شخص ومطاعم ومكتبات للهدايا التذكارية.. الخ
على المستوى الايماني: ولادنا الذين استشهدوا في ليبيا عام ٢٠١٥ منذ ستة سنوات، وقدموا قدوة ونموذج للأجيال الجديدة للاستشهاد المعاصر، وأنه بعد 1600 سنة مازالت بذرة الإيمان نفسها التي كانت في مارمينا ومارجرجس في القرن الرابع التي كانت فيهم والتي جعلتهم يثبتون على إيمانهم أمام الألم والاضطهاد الى قطع الرقاب.. وبما انهم نموذج عظيم فقد بنينا لهم كنيسة وعملنا لهم مزار جميل.
أما على المستوى الاجتماعي، تم إنشاء عدد من المشاريع التي تتيح فرص العمل لأبناء الايبارشية – مسلمين ومسيحيين، للارتقاء بمستواهم المادي. مثل عدة مشاغل للملابس والمنسوجات والتطريز وورش سباكة وأعمال كهربائية وورش نجارة. والجدير بالذكر أن ورش النجارة أنتجت كل أعمال النجارة التى تطلبها الفندق وكذلك جميع أعمال النجارة الخاصة بالكنائس بسمالوط. إضافة إلى مزارع واسعة تنتج مختلف المحاصيل عبر السنة ومزارع كروم عالية الجودة لعمل نبيذ الأباركة.
وعلى المستوى الصحي، فكرت في إنشاء مستشفى وبدأنا في التصميمات عام 1979 واخدنا الرخصة عام 1982 وتم افتتاح مستشفى الراعي الصالح عام 1992 م وهو يعتبر أكبر مستشفى تمتلكه الكنيسة (من حيث المساحات والامكانيات) على مستوى الكرازة على مدار ثلاثة عقود منذ إنشائها حتى الأن. والمستشفى يخدم كل شعب سمالوط – مسلمين ومسيحيين ويعمل به أطباء مسلمين ومسيحيين أيضا. والخدمة بالمستشفى تكون بتكلفة أقل بكثير من المستشفيات مثيلاته بالقاهرة وذلك مراعاة لظروف أبناء الايبارشية الاقتصادية، مع تقديم امكانيات طبية عالية سواء على مستوى البنية التحتية أو على مستوى الكوادر الطبية التي تعمل به. ويتم أيضا استدعاء أطباء على أعلى مستوى طبياً في كافة التخصصات سواء من داخل أو خارج مصر لخدمة أهالي سمالوط.
أما على مستوى التعليمي، تم إنشاء مدارس العهد الجديد، لغات وعربي، من مرحلة الحضانة حتى مرحلة ثانوي لخدمة أبناء سمالوط مسلمين ومسيحيين، ويعمل بها مدرسين مسلمون ومسيحيون، وتعتبر من أكبر المدارس التي تمتلكها الكنيسة على مستوى الكرازة، وقد حصلت على شهادة الأيزو لجودة مستوى التعليم بها، ووصلت الأن لسعة 2300 طالب وطالبة.
وعلى المستوى الترفيهي، تم انشاء نادي ترفيهي راقي جداً للأسرة المصرية بتكلفة محدودة، لا تزيد التذكرة عن خمسة جنيهات وليس له عضوية سنوية مثل الأندية بالقاهرة، حتى يكون في متناول الجميع. ويحتوي على حمام سباحة وملاعب كرة قدم وتنس طاولة وبلياردو وصالة جيم، وبه مطعم وكافيتريا.
كل هذه المشروعات بالايبارشية، أتاحت فرص عمل لأبناء وبنات سمالوط منهم 70% سيدات وفتيات، ويبلغ عدد العاملين بمرتب في مختلف المشروعات ألفين موظف وموظفة حتى الأن.
نشكر الله الذي أعاننا طوال فترة الخدمة هذه التي وصلت إلى 45 سنة حتى الأن، في تحقيق كل الأهداف السابقة بكافة المجالات، ومازال العمل مستمرًا بنعمة الله لتحقيق المزيد من النهضة والتطوير لأبناء الايبارشية مسلمين ومسيحيين على كافة الأصعدة.
ما الذي تم بناؤه من كنائس وسيامة لكهنة خلال رعايتكم لإيبارشية سمالوط؟
حين تم تكليفي بالخدمة في ايبارشية سمالوط كأسقف عام 1976م كان عدد الكهنة بها حوالي 20 كاهنًا وكان عدد الكنائس حوالي 20 كنيسة معظمهم متهالك وضعيف إنشائياً.
نشكر الله الذي كان معنا، فبنعمته تم ترميم معظم هذه الكنائس ال 20 وتم إنشاء كنائس جديدة حتى وصل عدد الكنائس الأن إلى حوالي 60 كنيسة، ومازال هناك أماكن كثيرة نتمنى من الله إنشاء كنائس بها لخدمة أبناء هذه المناطق. ووصل عدد الكهنة الأن إلى ما يقرب 107 كاهناً وحوالي 15 شماس دياكون وحوالي 20 طالب بالكليات الاكليريكية النهارية وحوالي 20 مكرسة.. ونشكر الله على عمله معنا بالايبارشية.
اختيار الكهنة بايبارشية سمالوط يتم بصورة دقيقة جداً، عملاً بالوصية الكتابية “لا تضع يداً على أحد بالعجلة..” (1تي 5: 22) وقد وضعنا هذا الأمر في أولوياتنا وأرى أنه من أهم أعمال ومهام الأسقف، وهو إعداد واختيار كهنة أكفاء أمناء للخدمة، إيماناً منا بأهمية دور الكهنة في النهضة الروحية والرعوية والكنسية والاجتماعية والتعليمية بالايبارشية. الكاهن الأمين الكفء ينقل شعب كنيسته نقلة نوعية هامة جداً على كافة الأصعدة الروحية والكنسية والاجتماعية والتعليمية، والكاهن هو عين الأسقف كما تعلمنا الدسقولية.
لذا نهتم جداً بهذا الأمر وهو اختيار الكهنة ووضعنا له رؤية تتم عبر عدة خطوات حتى نصل إلى سيامة الشخص كاهناً.
محافظة المنيا معروفة بالمشاحنات الطائفية.. كيف اكتسبتم محبة المسلمين قبل المسيحيين؟
مطرانية سمالوط ليس فيها مسلم ومسيحي ونحن نتعامل مع الكل على أنهم كلهم مواطنين مصريين وكلنا أسرة واحدة. إن دخلت المستشفى بسمالوط ستجد أطباء مسلمين ومرضى مسلمين أيضا، وهذا يعكس الوضع الطبيعي في بلدنا.. وعندما تتجول بالمستشفى يمكن أن تجد في ركن مجموعة من المسلمين يصلون بجانب المسيحيين دعوى لأقاربهم المرضى. حتى في المدارس التي تملكها المطرانية، بنينا مصلى لكي يستطيع الطلاب الدخول لأداء صلواتهم، وتجد في المدارس مدرسين وطلبة مسلمين. وبهذه الروح تولدت في المجتمع علاقة من الحب والوحدة ليس فيها تفرقة بين الديانات المختلفة، كلنا أسرة واحدة ولا يوجد مجال للتعصب.
وبنعمة المسيح، أثناء الإنفلات الأمني الذي حدث عقب ثورة يناير 2011م أخوتنا المسلمين هم من كانوا يقفون خارج أسوار الكنائس والمنشآت التابعة للكنيسة مثل مستشفى الراعي الصالح ومدارس ونادي العهد الجديد لحمايتها. حتى أن إمام الجامع الملاصق لمدارس العهد الجديد، حينما علم برغبة بعض المتعصبين بالهجوم على المدارس، قام بالمناداة في مكبر الصوت الخاص بالجامع لدعوة الشعب المسلم للاصطفاف خارج أسوار المدارس لمنع هذا الفعل، وقال: إن أبناءنا وبناتنا المسلمين يتعلمون في هذه المدارس. وكذلك الحال بالنسبة لمستشفى الراعي الصالح التي كان بها وقتها الكثير من المرضى المسلمون يتلقون العلاج في أقسامها المختلفة. وقف أسر هؤلاء المرضى وغيرهم من الأخوة المسلمين خارج أسوارها لحمايتها من المتعصبين. وهكذا كان الحال بالنسبة لكل كنائس الايبارشية، لما كان يربط شعب سمالوط مسلمين ومسيحيين الكثير والكثير من روابط المحبة والعشرة والتعاون.
كل هذا جعل من الطبيعي – أثناء أحداث ٢٠١٣ ايبارشية سمالوط لم يحدث بها أي حالة تعد على أي منشأة كنسية خلال تلك الفترة، لأن هذا مكانهم ومدرستهم وناديهم والمستشفى التي ترعاهم كلهم.
نيافتك صاحب المدرسة الروحية التي تخرج منها شهداء ليبيا للحياة القبطية.. ما شعورك؟
هؤلاء الشباب قدموا نموذج في القرن ال٢١ يؤكد لنا أمجاد كنيستنا وهذا التعليق سمعناه من كثيرين حول العالم، حتى في زيارات البابا تواضروس لأمريكا وكندا سمع منهم مثل هذا التعليق. في القرن الرابع كان يوليوس الأقفهسي يكتب سير الشهداء بالقلم والورقة، لكن نشكر الله أن داعش سجلت هذا الحدث بالصوت والصورة، فكان له أثر قوي جداً على العالم كله بهذا التسجيل الموثق الذي لم يكن موجود في الأزمنة القديمة.
كيف تري نيافتك أهمية مشروع مسار العائلة المقدسة بالنسبة لمصر وللكنيسة المصرية؟
مصر غنية بالأثار من مختلف الأنواع، مثل الثقافية والشاطئية والترفيهية وبها تراث عظيم، لكنها تتميز بهذا المسار الذي يخلق سياحة جديدة إضافية وهي السياحة الدينية أو الروحية، فمصر هي البلد الوحيد التي زارها السيد المسيح خارج فلسطين لذا تتميز بشئ ليس موجوداً في اي مكان اخر في العالم، فلو نجحنا في الترويج لهذا المسار سيكون هناك سياحة جديدة تدخل مصر
لقد زرت عذراء لورد وتعجبت من الأعداد الغفيرة التي تزور المكان الذي ظهرت فيه العذراء مريم لبنت صغيرة. فكم من الناس سيزور نقاط عاشت فيها العائلة المقدسة ومسار سارت فيه مدة ٣ سنوات ونصف. وعندما كنت في القدس لتجليس مطران القدس عام 2016، فقالوا لنا أثناء الزيارة، إن مياة نهر الأردن مياة مباركة لأن المسيح شرب منها، فقلت لهم أن نهر النيل في مصر أيضا المسيح شرب منه وعاش على ضفافه، لذا ما الذي ينقصنا في مصر من تلك البركات.
ومن ناحية أخرى، مشروع احياء مسار العائلة المقدسة يعد مشروعاً قومياً باعتباره محورًا عمرانيًا تنمويًا، ويؤدي تنمية هذا المحور العمراني إلى تنمية المجتمعات المحيطة على طول المسار.
واهتمام الدولة بمسار رحلة العائلة المقدسة هو اهتمام من أجل مصر، والرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي وكل الأحباء القيادات بالدولة يهتمون بهذا، فهو أيضا صورة قوية نستطيع أن نصدرها للعالم كله من أجل مصر وهي صورة السلام الذي جعل مصر حصناً أميناً في الرحلة المقدسة وفي الحقيقة هو كان هروب وليس رحلة عادية.
هذا المسار يعتبر أطول مسار ديني في العالم ويقع في الأراضي المصرية ويبلغ طوله 3500 كم ويمر على 25 نقطة في مصر. يبلغ أهميته من كونه مسارًا دينيًا روحيًا يستطيع أن يجذب ملايين من السياح من حول العالم، حيث مازالت تلك النقاط على المسار بها شواهد عبر العصور عن رحلة هروب العائلة المقدسة من بطش هيرودس. هذا التراث الديني العالمي الذي تتفرد به مصر عن سائر دول العالم.
أما بالنسبة لأهمية رحلة العائلة المقدسة للكنيسة القبطية المصرية، بفضل تلك الرحلة المباركة تبوأت الكنيسة القبطية مكانة دينية خاصة بين الكنائس المسيحية في العالم لارتباطها بهذه الرحلة المباركة لأرض مصر. أيضا الكنيسة القبطية هي التي حافظت على أثار هذا التراث الروحاني كتراث مادي والممارسات التي كانت ومازالت تتم عبر العصور في تلك الأماكن لتفرز تراثًا حياً – لا مادي – تغتني به مصر أيضا.
وتحتفل الكنيسة القبطية المصرية بعيد دخول العائلة المقدسة أرض مصر يوم الأول من يونيو والذي يقابله 24 من شهر بشنس بحسب التقويم القبطي.
من اهم النقاط على مسار العائلة المقدسة، دير جبل الطير، كيف كانت رؤية نيافتك لتطوير المنطقة وهل تم بالتعاون مع الدولة؟
منذ أكثر من أربعين عامًا وحتى الأن، كنيسة السيدة العذراء بدير جبل الطير في سمالوط، محور الاهتمام والتطوير، بكل مجهودي أسعى لرؤية مستقبلية لهذا المكان المبارك.
لاشك أن أهم مكان بدير جبل الطير هو كنيسة السيدة العذراء الأثرية، وهذه الكنيسة خاضعة لإشراف وزارة السياحة والأثار، فمن الطبيعي ان تشرف وزارة الأثار على ترميمها، لكني لم أحب أن أثقل على الدولة، فهذا الترميم كلف المطرانية إلى الأن حوالي ٤٠ مليون جنيه ومن المقدر صرف حوالي ٢٠ مليون إضافية للانتهاء من الترميم.
ويتم الأن تطوير محيط الكنيسة الأثرية وعمل البنية التحتية من تغذية بالمياه والصرف، وقامت المطرانية برفع كفاءة الأحمال الكهربائية بتركيب محول كهربائي عالي القدرة.
تم أيضا إنشاء فندق “العائلة المقدسة” على أعلى مستوى من الخدمة لإقامة السائحين والاستمتاع بالمكان بما لديه من مقومات طبيعية وتاريخية مدهشة.
وقد طلبنا من الدولة تخصيص مساحة من الأرض الصحراوية، بحري الكتلة السكانية بدير جبل الطير، لتشتريها المطرانية من أجل إقامة محلات ثابتة، لأن في المواسم الروحية كان المعتاد إقامة خيام متنقلة للباعة وكانت غير أمنة وعرضة للحريق، لذا حررنا خطاباً نطالب سيادة المحافظ بتخصيص أرض للمطرانية من أجل إقامة تلك المحال الثابتة، ووضحنا أن المطرانية سوف تتكفل بكل شبكات البنية التحتية من الصرف الصحي وشبكة المياة وشبكة الكهرباء لتجهيز مكان المحلات بالبنية التحتية المطلوبة. هذا المكان سيتم إقامة فيه محلات تستخدم مرتين في السنة في شهري مايو واغسطس حيث المواسم الاحتفالية للعذراء، ومازلنا في انتظار الرد..
الاستثمار في مشروع العائلة المقدسة مهم للغاية.. خاصة في سمالوط.. ما هي رؤية نيافتكم؟
تتمتع سمالوط بمقومات سياحية طبيعية حيث أن كنيسة السيدة العذراء جبل الطير مدرجة ضمن الكنائس المنحوتة في الصخر وتطل على نهر النيل بمنظره الخلاب، وتوجد أمامها مجموعة من الجزر الطبيعية التي تعد بمثابة محميات طبيعية. كل هذا يشكل جذب سياحي بالإضافة إلى الأماكن الأثرية والأماكن التراثية بمحافظة المنيا – من معابدها وكنائسها وأديرتها العريقة ولاسيما الرحلات النيلية.
كما أن مغارة وكنيسة القديسة العذراء مريم دير جبل الطير، كنقطة من نقاط مسار العائلة المقدسة، تعتبر أداة هامة للترويج السياحي بالمنيا وتساعد على زيادة التدفق السياحي الخارجي إلى الصعيد. كذلك تفتح باب الاستثمار للعديد من الأنشطة الاقتصادية المتعلقة بصناعة السياحة، مع توفير فرص عمل للمجتمع المحيط حيث أن مشروعات السياحة تتميز بكثافة العمالة، وكذلك تشغيل المطاعم والكافيتريات لتقديم خدمة على أعلى مستوى.
لذا يجب الانتهاء من تطوير نقاط الوصول إلى دير جبل الطير والارتقاء بالبيئة المحيطة به.
أما من الناحية الأفكار الاستثمارية في المنطقة، فيمكن إحياء سياحة السفاري ورحلات المعسكرات حيث أن لدينا الظهير الصحراوي الشرقي. ويمكن إعداد برامج سياحية مدروسة مع تشجيع شركات السياحة على وضع تلك البرامج في خططها السياحية.
من أهم الأفكار أيضا الذي سيعود بالرزق على المجتمع المحيط، هو تدريب المجتمع على الحرف اليدوية والتراثية وتشغيل الاتيليهات والبازارات لكي تقدم منتجات يستحسنها السائح.
رسالة نيافتك من نقطة على مسار العائلة المقدسة من صعيد مصر؟
إذا كان ربنا عطانا ملكة أو موهبة، فليس لنا فضل فيها لأنها عطية من الله، بل تكون دينونة لنا إن لم نستخدمها. السيد المسيح قال: “متى فعلتم كل ما امرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون” لأننا فعلنا ما امرنا به. لذا يجب أن أعمل بما أمرني به إلهي وبحسب تعاليم الإنجيل وأعمل بالملكة التي أعطاها الله لي.
دائما أتكلم مع أحبائي الآباء الأساقفة الجدد الذين يحضرون للزيارة، وأقول لهم اننا تم تكليفنا في أماكننا لكي تكون خدمتنا فعالة جداً وإن لم تكن خدمتنا ناجحة فربما الأصلح أن نعود إلى الدير.
ملف تقنين الكنائس في مصر.. إلى أين.. بحسب رؤيتك؟
تقنين الكنائس خلال ال 45 سنة الماضية، مر بصعوبات كثيرة في بناء الكنائس وبدأنا مؤخراً نسعد بوجود تقنين للمباني التي تم تشييدها السنوات الماضية بدون تقنين. وبدأ يكون هناك إمكانية أيسر لصدور قرارات بناء كنائس جديدة. وأود أن أحيي المهندس يوسف سيدهم رئيس تحرير جريدة وطني على مقالاته في وطني التي يشير فيها على أي تباطؤ أو تخاذل يمر به الملف القبطي، ونتمنى أن نرى السنوات القادمة تطور إلى الأحسن في هذا الصدد.
وبهذا اكتمل الحوار مع القائد والراعي لايبارشية سمالوط وطحا الأعمدة.. وفي الأسبوع القادم سنقدم نماذج من الإنجازات على أرض الواقع.