أحمد لطفي السيد هو أستاذ الجيل, بلا منازع, بل هو أستاذ لأجيال كثيرة, هو أحد رواد النهضة المصرية في العصر الحديث في الفكر والتعليم والثقافة والسياسة, ويمثل مع الشيخ رفاعة الطهطاوي, والشيخ محمد عبده, وسعد زغلول, وقاسم أمين, وفنان الشعب السيد درويس, وسلامة موسي, وهدي شعراوي, ونبوية موسي, ومنيرة ثابت, وباحثة البادية, ومي زيادة ود. طه حسين, ود. سهير القلماوي, ود. درية شفيق وغيرهم, رواد نهضة مصر الحديثة.
أريد هنا أن أتحدث عن الرائد العظيم أحمد لطفي السيد 1872 ـ 1963م هذا الرجل لا تعرفه الأجيال الجديدة للأسف, مع أن له بصمات في كل جوانب حياتنا يتمتع بها الجميع, وبخاصة الشباب الذي لا يعرفه. وهذه مأساة حقيقية ألا تعرف الأجيال الجديدة قادة الفكر وأساتذة الجيل. وإذا كانوا لا يعرفونهم فهم بالتالي لا يعرفون فلسفتهم وما قدموه من فكر وثقافة ومعرفة ومشروعات تقدمت بمصر إلي الأمام والتقدم.
ولد أحمد لطفي السيد في 15 يناير 1872 في قرية برقين مركز السنبلاوين محافظة الدقهلية من أب فاضل هو عمدة القرية, فنشأ طفلنا في أسرة ميسورة الحال, وإذا أضفنا لذلك شخصية الوالد المهيبة المحبة للناس والخير والحق, والحافظة للقرآن الكريم. عرفنا البيئة الصالحة التي نشأ فيها أحمد, فقد كان والده عطوفا حكيما في تربية أبنائه مما كان له أحسن الأثر في شخصياتهم.
في الرابعة من عمره درس أحمد في كتاب الشيخة فاطمة لمدة ست سنوات تعلم خلالها القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم. في عام 1882 انتقل تلميذنا إلي مدرسة المنصورة الابتدائية والتحق بالسنة الثانية مباشرة لأنه كان يعرف قواعد الحساب ويحفظ القرآن الكريم. بعد ثلاث سنوات ترك المدرسة الابتدائية إلي المدرسة الخديوية في القاهرة العاصمة. كان التدريس في المدرسة الثانوية أفضل بكثير من سابقتها سواء في التدريس أو المعاملة ففيها كان هناك شيء من الترف وبخاصة أنها مدرسة داخلية.
تعرف أحمد لطفي السيد بزميل له وجد تشابها فيه مع شخصيته وهو عبدالعزيز فهمي وأصبحا صديقين طوال العمر, أحب صبينا المدرسة ووجد فيها الأمن والأمان, فكان لا يتركها أثناء العطلة الأسبوعية. ووجد من الوقت ما يتيح له القراءة والإطلاع علي الصحف والكتب, ودفعه حبه للقراءة ونهمه للمعرفة إلي قراءة كتاب العالم دارون: أصل الأنواع, وحفظ أشعارا كبار الشعراء والمعلقات وغيرها وكون لنفسه ثقافة ومعرفة وهو في هذه السن الصغيرة.
كان أحمد في هذه الفترة تلميذا متوسط الحال. فلا هو من المتقدمين أو من المتأخرين, لكنه كان يقرأ.
عندما وصل إلي السنة الأخيرة الثانوية, أي إلي البكالوريا, الثانوية العامة الآن, طلب منه زملاؤه مقابلة وزير المعارف وقتذاك ليعفيهم من الاختبارات الشهرية حتي يتفرغوا للمذاكرة لامتحان آخر العام. استطاع الطالب أحمد أن يطلب مقابلة الوزير في شجاعة ووافق الوزير علي طلبه وكان هذا الموقف امتحانا لشخصه وحب الزملاء له.
في عام 1889 حصل أحمد لطفي السيد علي شهادة البكالوريا, والتحق بمدرسة الحقوق, كلية الحقوق الآن, وتفوق في دراسته مما جعل الشيخ محمد عبده الأستاذ أن ينبهر به وبعلمه, فقد كان الطالب أحمد لا يدرس لمجرد الحصول علي الشهادة وإنما حبا في المعرفة وإيمانا بالقانون وأهميته, وكان قارئا ممتازا لكل أنواع المعرفة, وتحقيقا لطموحه كتب في جريدة المؤيد وغيرها. سافر إلي إسطنبول وهناك تعرف علي الشيخ جمال الدين الأفغاني وتوطدت بينهما صداقة أفادت أحمد كثيرا, بالإضافة إلي صداقته بالشيخ محمد عبده الذي شعر بأنه شاب واعد ينتظره مستقبل كبير.
* حصل أحمد لطفي السيد في عام 1894 علي درجة الليسانس في الحقوق وعين كاتبا في النيابة, وبعد سنتين عين وكيلا للنيابة بمحافظة بني سويف بمرتب عشرة جنيهات, وكان سعيدا في هذا العمل لقربه من صديقه عبدالعزيز فهمي. بدأ بعد ذلك في العمل العام فأنشأ جمعية سرية هدفها تحرير مصر مع زملائه رجال القضاء, وتقابل مصادفة بعد ذلك مع الزعيم مصطفي كامل الذي دعاه للاشتراك معه في تأسيس الحزب الوطني لمقاومة الاحتلال البريطاني, طلب الخديوي عباس مقابلة أحمد لطفي السيد لمناقشته في عمل وهدف الحزب الوطني, وذهب إليه وتحدث معه عن الحزب, كما طلب منه أن يسافر إلي سويسرا ويمكث هناك عاما لكي يكتسب الجنسية السويسرية, ثم يعود إلي مصر ليحرر صحيفة تقاوم الاحتلال ولا يستطيع أحد القبض عليه لجنسيته الأجنبية. خرج لطفي السيد من مقابلة الخديوي إلي بيت محمد فريد واجتمع هناك مع مصطفي كامل وسعيد الشيمي, ولبيب محرم, وألفوا الحزب الوطني لجمعية سرية يرأسها الخديوي, في سويسرا التحق لطفي السيد بالدراسة في الجامعة وتخصص في الآداب والفلسفة, كما تعلم لعبة الشيش واجتمع هناك أيضا بأستاذه الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين, وكان الأخير يؤلف كتابه المهم المعروف, تحرير المرأة, فوجد الفرصة أن يقرأ لهم بعض فصول الكتاب, ووجد الشيخ من الجميع مما أثلج صدره. بعث الخديوي إسماعيل إلي سويسرا يستدعي أحمد قبل انتهاء مدة اقامته هناك, وذلك لأنه سمع عن صداقته بالشيخ محمد عبده وكان لا يحبه لأن الشيخ دائم الهجوم عليه وعلي أسرة محمد علي كلها. عاد لطفي السيد ومن الإسكندرية أرسل تقريرا إلي الخديوي عن دراساته ومقابلاته في جنيف قال فيه:
.. إن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها, وأن المصلحة الوطنية تقضي بأن يرأس سمو الخديوي حركة شاملة للتعليم العام وإتاحة الفرصة للجميع, للفلاحين والعمال وكل عناصر الشعب.
* عمل أحمد لطفي السيد بعد عودته وكيلا للنيابة في الفيوم والمنيا وميت غمر لكنه استقال في عام 1956 للتفرغ للعمل كمحام يدافع عن قضايا الناس والبلد, وشجعه علي ذلك صديقه عبدالعزيز فهمي الذي استقال قبله. ويحكي لنا الأخير أنه بعد أن عمل مع صديقه في المحاماة جاء والده لطفي السيد وأخبره أنه اشتري عزبة مساحتها أربعمائة وخمسون فدانا, وأنه يريد أن يكتبها باسم. إبنه أحمد فغضب أحمد غضبا عظيما وقال لوالده.. لا أقبل مطلقا أن تميزني علي أخوي سالم وسعيد, فإن أردت أن يكون العقد لي ولهما فذاك, وإلا فلا. أكبر والده هذا الشعور وصديقه عبدالعزيز فهمي. هذه هي أخلاق أحمد لطفي السيد العدل وكراهية الظلم وعدم التعصب. وهو صاحب الشعار المعروف: مصر للمصريين.. وهو شعار ثورة .1919 كان يؤمن بأن الإسلام يأمر بالتعاون والائتلاف بين أفراد الأمة من أهل الأديان الأخري.
كون أحمد لطفي السيد بعد ذلك شركة الجريدة في بيت محمود باشا سليمان 1907م وانتخب هو مديرا لها ورئيسا لتحريرها لمدة عشر سنوات. كانت الجريدة تهاجم الاستعمار وتعلم الشباب, وتوقف كل القرارات التي لا تتفق مع مصلحة مصر.
* تولي أحمد لطفي السيد أكثر من عمل.. مديرا لدار الكتب مرتين, مديرا للجامعة المصرية مرتين 1925 و1935, وزيرا للمعارف 1928, وعضوا بمجلس الشيوخ 1941, ورئيسا للمجمع اللغوي .1945 وفي سنة 1946 عمل وزيرا للخارجية ونائبا لرئيس مجلس الوزراء, وفي كل موقع كان له بصمته الواضحة وإنجازه الكبير.
قام أحمد لطفي السيد أيضا بترجمة عدة كتب للفيلسوف اليوناني أرسطو منها: الكون والفساد, والطبيعة, وكتاب الأخلاق الذي يعتبر مقدمة لكتاب السياسة الذي ترجمه .1947
يقول لطفي السيد عن أهمية الأخلاق:
إن غني الأمة وسعادتها ليسا في خصب أرضها, ولا في صفاء جوها, واعتدال منطقتها, وليس بضخامة مدائنها, بل بمقدار عدد المهذبين من أبنائها, فهم الذين يبنون مجدها, وهم الذين يخلقون غناها..
* صدقت ياأستاذ الجيل, ليتنا نتعلم وتتعلم أجيالنا الجديدة.
* عاش أستاذ الجيل واحدا وتسعين عاما, اهتم بصحته فلم يدخن, أو يشرب القهوة, وكان يهوي رياضة المشي, وهو من الأدباء والمفكرين الذين لمعوا في صالون الأديبة: مي زيادة, رحل عنا في عام .1963