يبدو أننا نقترب أكثر مما كنا نتوقع من اليوم الذي ينزل فيه المصريون من بيوتهم وجيوبهم أو حافظاتهم أو حقائبهن خالية من النقود -سواء العملات المعدنية أو العملات الورقية- هذا بفضل التوجه القومي لغرس مفاهيم الدفع الإلكتروني وما صاحبه من حملات توعية وبرامج دعائية أطلقها البنك المركزي المصري وتشارك فيها نخبة من أكبر البنوك المصرية تحت شعار وداعا للكاش.
صحيح أن شريحة لا يستهان بها من المصريين تألف وسائل الدفع الإلكتروني وتمارسها عبر الكروت مسبوقة الدفع أو كروت الائتمان سواء في تعاملاتها محليا أو في سفرياتها خارج البلاد, لكن تظل غالبية المصريين الذين ينتمون إلي القاعدة الشعبية والطبقة المتوسطة يعتمدون علي النقود تماما في مشترياتهم وفي سداد مقابل الخدمات التي يتعاملون معها ويستهلكونها… ولعل تلك القاعدة هي أساسا المستهدفة من حملة وداعا للكاش خاصة شرائح الباعة والحرفيين والتجار ومقدمي الخدمات البسيطة وسائقي وسائل النقل الخاصة -الأجرة والتوكتوك والربع نقل والنصف نقل والنقل- وغيرها.. وغيرها.. التي اعتاد أصحابها تلقي مقابل ما يبيعونه أو يقدمونه من خدمات للمستهلكين في صورة نقود مباشرة, ولا يعرفون شيئا عن وسائل الدفع الإلكتروني.
وقد بدأت أجهزة ومؤسسات الدولة وشركات المرافق بها منذ فترة غير وجيزة في دعوة عملائها لسداد ما عليهم لها عبر وسائل الدفع الإلكتروني مثل المعاملات المصرفية ومستحقات التأمينات الاجتماعية والضرائب, كما امتد ذلك إلي سداد مستحقات استهلاك الكهرباء والغاز والمياه والاتصالات التليفونية والإنترنت- خاصة مع التوسع في سياسة الدولة نحو تركيب العدادات مسبوقة الدفع- هذا بالإضافة إلي شيوع إتاحة السداد الإلكتروني في سائر الأماكن السياحية والمتاجر الكبيرة وشركات الطيران وغيرها… لكن يظل المواطن محتاجا للنقود في حياته اليومية لسداد قيمة احتياجاته الأساسية مثل شراء الخبز والبقالة والتسوق من الأسواق الشعبية وركوب المواصلات ومقابل الخدمات التي يحصل عليها من الحرفيين والعمالة الفردية… إلخ… وهذه كلها تتطلب إعادة صياغة العلاقة بين البائع والمشتري أو بين مقدم الخدمة والمستهلك لترسيخ أدوات التراضي بين الطرفين علي استبدال النقود بالدفع الإلكتروني.
لست متعجبا من قدوم الأيام التي نشهد فيها هذا التغيير لأن شعبنا أثبت أنه قادر علي استيعاب أدوات وأنماط التطور والتكنولوجيا الحديثة -وليس أدل علي ذلك من سرعة انتشار التكنولوجيا الرقمية وأجهزة الكمبيوتر والتليفونات المحمولة وما حملته من عوالم مترامية الأطراف لوسائل الاتصال والتواصل وشبكات الإنترنت, وقدرة القطاعات الشعبية غير المتقدمة تعليميا علي التعامل بها والتواصل بواسطتها- إذا لا غرابة في الرهان علي قدرة هذه القطاعات عينها علي التحول السلس من التعامل بالنقود إلي الدفع الإلكتروني.
ولا يخفي علي أحد الفوائد الجمة التي ستعود علي المجتمع بجميع مؤسساته وكياناته وأفراده من شيوع ثقافة الدفع الإلكتروني, وغني عن القول أن في صدارتها يأتي القضاء علي سوء استخدام أوراق البنكنوت التي يجب أن نعترف أن مصر -ولا حرج- تشتهر بها… فمن يتأمل الحالة المتهرئة التي تصل إليها أوراق البنكنوت المصرية سوف يصاب بالرعب مما تحمله من قذارة وتلوث وما تعكسه من استهتار واستهانة المتعاملين بها ليس لقيمتها المادية فقط وإنما لقيمتها الوطنية وما تعكسه من استباحتها وعدم الحرص عليها وانفلات الكتابة فوقها… وكلها أسباب مؤسفة تقف وراء الكميات الهائلة التي تبلي منها والمعدلات المتسارعة التي تفوق المعدلات العالمية في الاحتياج لإعدام المتهرئ منها وطباعة أوراق نقد جديدة عوضا عنها, الأمر الذي دعا البنك المركزي المصري منذ شهور قليلة إلي الإعلان عن خطته طباعة أوراق بنكنوت بلاستيكية تتحمل سوء الاستخدام ولا تبلي بسرعة!!
لكن مع كل الارتياح والترحيب بسياسة وداعا للكاش وأهلا بالسداد الإلكتروني تبقي هناك استفسارات بعضها جاد وبعضها الآخر طريف مثل:
** هل سيختفي البقشيش من حياتنا أم سنحمل القليل من النقود للوفاء بما يطلق عليه إكراميات؟!!… أنا أعرف تماما أن من يحصل علي الخدمة في مكان عام أو مطعم أو كافيتريا أو ما شابه ذلك يستطيع أن يضيف مقابل الإكرامية علي فاتورة الدفع النقدي… لكن تظل هناك عشرات بل مئات من أنماط المتعطلين عن العمل والذين ينتشرون في كل مكان مثل أماكن انتظار السيارات والأسواق ومحطات القطارات والمطارات وغيرها.. ممن يعرضون أو يفرضون خدماتهم مقابل الحصول علي البقشيش… فهل يختفي أولئك؟.. أم نوفر لهم ماكينات الدفع الإلكتروني؟.. أم نحتفظ في جيوبنا بما يوفي استرضاءهم؟!!.. وطبعا ينطبق ذلك علي المتسولين أيضا.. ماذا نحن فاعلون بشأنهم؟!!
** هل سيختفي مصروف المدرسة الذي يذهب به أولادنا وأحفادنا إلي مدارسهم كل يوم, وتحل محله كروت دفع إلكترونية يحملونها لشراء البسكويت والشيكولاتة والساندويتش والمشروبات… إلخ؟… وهل سيعرف كل منهم كيف يضع الرقم السري عندما يطلب منه ذلك لإتمام الدفع الإلكتروني؟… وهل سيحافظ الطفل أو التلميذ علي سرية الرقم السري؟!!
** هل سيأتي اليوم الذي مثلما يحدث مع من يسافر منا للخارج, إذا أخرج مواطن من جيبه أوراق بنكنوت فئة مائتي جنيه أو فئة مائة جنيه لسداد مبلغ مستحق عليه, ينظر إليه بكل توجس واستغراب لسلوكه غير المألوف, بل يلحقه الشك في مصدر نقوده أو يطاله الاتهام بأنه غير جدير بالثقة التي تؤهله للحصول علي كروت للدفع الإلكتروني؟!!
** إننا بالقطع مقبلون علي عصر جديد سوف يفرض معايير جديدة علي معاملات أفراد المجتمع مع بعضهم البعض… لكنه التغيير الذي لا محالة من قبوله ولا سبيل إلي رفضه.