فلنبدأ موضوعنا بهذه القصة لمبدعها Heinrich Zimmer: ذات مرة كان هناك ثلاثة رجال يسيرون معا في الغابة,فجأة جاء مسرعا نمر مفترس وبدأ في مطاردتهم حتي يلتهمهم, فصرخ الأول قائلا: أيها الأخان العزيزان,هذا هو قدرنا وستكون نهايتنا حتما بالتمزيق إربا وكان هذا الشخص تابعا لمذهب القدرية.فأتي الثاني ونادي متوسلا:أيها العزيزان,لنرفع صلاتنا إلي الله القادر علي كل شيء, متضرعين معا وهو الرحيم الذي يستطيع أن ينجينا من هذه التهلكة وسيفعل ذلك حتما,وكان هذا الشخص عابدا مؤمنا أما الثالث فعارضهم قائلا:لماذا نزعج الله؟لنقفز للتو فوق الأشجار,وكان الأخير إنسانا يحب الله حقا. لذلك نتساءل:هل نحن أتقياء وعابدون أم مؤمنون محبون حقا؟ يوجد من يعبدون الله حسب الظاهر فقط دون أن يتفاعلوا مع الأحداث تاركين حياتهم ومصيرهم لهذه الأحداث التي تجري من حولهم وهم وقوف في أماكنهم دون أن يحركوا ساكنا, ويوجد آخرون يكتفون بالتوسل إلي الله ليعمل هو فقط في حياتهم متجاهلين أن الله خلقهم وسلمهم كل شئ بين أيديهم محترما حرياتهم الكاملة, أما النوع الثالث هو المتدين الحقيقي الذي يؤمن إيمانا عاملا وفعالا ولا يجهل أولوية الله في حياته ولكن مع التزام ودور الإنسان, نعم: تكامل نعمة الله مع حرية الإنسان, الإيمان والعمل, العطية والاستجابة عليها, وكما يقول القديس يعقوب في رسالته : وكذلك الإيمان, فإن لم يقترن بالأعمال صار ميتا في حد ذاته(يعقوب 2:17). الإيمان بالله هو شمس الروح التي تختفي أمامها أوهام الشكوك.التدين الحقيقي هو أن نحيا إيماننا في المجتمع ونؤثر فيه بالإيجاب, فإن كنا أصحاب أخلاق ومبادئ, نتكلم ! ولا نكون جبناء أمام المستهزئين بالتقوي ولا مبدأ لهم,وإن كنا من دعاة العدل,وأصحاب الأخوة والمساواة والحرية, لنتكلم! ولا نسكت أمام حق مهضوم أو فقير مظلوم, أو ضعيف قام ياستغلاله واستبداده الانتهازيون.
يقول الكاتب الشهير تولستري:يستطيع الإنسان أن يجهل الدين,كما أنه من الممكن أن يجهل بأنه يملك قلبا, لكن لا يستطيع الإنسان أن يحيا بدون الدين كما أنه لا يستطيع ذلك أيضا بدون القلب. لأن الشخص منا مهما يفعل أو يدعي لن يستطيع أن يعيش أبدا بدون إيمان, وكما صرح الفيلسوف أفلاطون:عندما تنزع التدين من أي مجتمع تحرمه من كل أساس يقوم عليه,كما نقول ذلك في الحب, لايستطيع أي شخص أن يدعي بأن لا ضرورة للحب في حياته, فهذا الاعتقاد باطل. وما يحزننا هو أن نحيا الدين بدون روح أو حياة, نعتبره واجبا مفروضا علينا وعبئا لا نستطيع التخلص منه, ونتمسك بالشكليات فقط حتي نصير سطحيين في تديننا وكما يؤكد المهاتما غاندي:حياة بدون تدين, كالسفينة بدون دفة إذا يجب علينا أن نشكر الله الدي وضع في قلبنا بذرة الإيمان, من الممكن أن نجهلها ولكن يظل الإيمان في انتظارنا لكي نثمر ثمرا طيبا بواسطته.
يحكي أن عاملا بسيطا جلس بعد طول عناء علي قارعة الطريق يمسح العرق النازل من جبينه وقد بدت عليه آثار الإرهاق ومر صدفة رجل أنيق المظهر وشاهده علي هذه الحال, فبدأ الحديث معه بهذا السؤال: كم عمرك يا سيدي؟ فرد عليه العامل من دون أن يرفع رأسه نحوه وينظر إليه:خمس سنوات ,أتقول خمس سنوات!! هل تسخر مني؟ هذه السنون بالرغم من لحيتك التي شابت! لابد أن التعب أفقدك وعيك!, لا ياسيدي ! مازلت بكامل وعيي والحمدلله,إنما لا أحسب من عمري إلا الأعوام التي عشتها بتعقل وإنسانية ورحمة نعم أمضيت ستين عاما منذ أن أنجبتني أمي, ولكني قضيت منها خمسة وخمسين عاما متصلة وأنا لا أستحق أن أدعي فيها إنسانا عشت بلا إيمان ولا صلاة ولا أعمال خيرية ولا حب, ومنذ قرابة خمس سنوات لا غير بدأت أحيا كإنسان, يعيش حياة المؤمنين الذين يحترمون الغير ويقدرون الإنسانية دون احتقار أو تحقير أي مخلوق. فأجابه الرجل الأنيق: إذا ياسيدي, جريا علي حسابك هذا أنا لم أولد بعد, فاليوم أنا أريد أيضا أن أعود إلي ذاتي وأحيا كإنسان مؤمن لأنني حقا لم أعش كبشر حتي الآن .لذلك يجب أن نعتبر كل يوم في حياتنا هو يوم جديد وضعه الله بين أيدينا وكأنه صفحة ناصعة البياض,لنخط عليها ما شئنا من خير وحب وخدمة الآخرين وإنسانية ونعمل بدون توان في استثمار المواهب والنعم التي أعطانا إياها الله, يوما بعد يوم, ولحظة بلحظة لأن التدين الحقيقي والصادق ليس مجرد عقيدة نؤمن بها فقط بل نعيش بموجبها في كل ساعة وفي كل ظرف من حياتنا اليومية, ونسعي جاهدين لتحقيق إرادة الله والاستفادة من الحياة التي منحنا إياها وذلك يقتضي منا أن نعيش هذا الإيمان في علاقتنا بالله والقريب معا. لذلك إن أردنا أن نكلل حياتنا وطريقنا بالنجاح والسعادة لا يكفينا أن نتجنب الذين ينكرون الله,بل يجب أن نضع الدين في أساس حياتنا أي يجب أن نعمل وفق إرادة الله,ونستثمر الحياة التي منحنا إياها علي أحسن وجه ويتحقق هذا عندما نحب الله والناس بالعمل والحق وهذا هو الإيمان الحق.
نقرأ الكلمات العميقة للقديسة تريزا دي كالكوتا:الصلاة هي ثمرة الصمت والإيمان, هو ثمرة الصلاة, والحب هو ثمرة الإيمان, والخدمة هي ثمرة الحب, والسلام هو ثمرة الخدمة, هنا نفهم التدين الحقيقي في علاقتنا بالله والآخرين من خلال الصلاة والإصغاء لله ومحبتنا له ولكل البشر عن طريق خدمتنا لهم حتي نصل إلي السلام الداخلي. فالإيمان الحقيقي الفعال يجعلنا نشعر بوجود الله الدائم في حياتنا ليس كرقيب أو ديان, ولكن كمنقذ ومرشد كنا نسمع دائما ونحن صغار عبارةربنا شايفك,من الممكن أن ننفهم هذه العبارة بطريقتين مختلفتين:أولا يراها البعض بأنها تهديد وتخويف بأن الله يراقب تصرفاتنا لحظة بلحظة ليحاسبنا علي كل صغيرة وكبيرة ونصل إلي اللحظة التي نعتبر فيها التدين هو كابوس ينغص حياتنا,وثانيا يراها البعض بأنها تمنحنا الثقة والطمأنينة والهدوء والسلام بأننا لسنا وحيدين تصارعنا أمواج الحياة وتلاحقنا الصعوبات وتحبطنا الضيقات من كل جانب ولكن الله يقف بجانبنا في كل لحظة ولا يتركنا أبدا, وكما يقول سفر أعمال الرسل:ففيه حياتنا وحركتنا وكياننا(أعمال17:28) لأن الإيمان أو التدين ليس فرضا أو اكتسابا,ولكنه استجابة حب حر وواع وبدون مصالح.ونختم بالقول المأثور:إن لم تكن مطرا يروي,فلا تكن نارا تكوي.