إذا قدنا شخصين أمام حوض ورد مزهر, نكتشف الآتي: الأول ينفتح قلبه قائلا: سبحانك يا الله, ما أجمل وما أروع هذه الورود. لكن الثاني يتساءل: ما هو الثمن المدفوع فيه؟. أيضا إذا اصطحبنا اثنين لمشاهدة معرض فني, فنلاحظ الآتي: الأول يذهل ويتأثر ويتعجب, أما الآخر فيشعر بالضجر والملل..
للأسف, نحن نعيش في عالم ندرت فيه مقاييس الجمال والانبهار بمخلوقات الله وبالفنون. من يريد التمتع بجمال المخلوقات والطبيعة وجميع الأشياء, فعليه أن يتعود علي رؤيتها بحب, خلاف ذلك سيري فيها أشياء عادية. فالله تعالي يشعرنا بوجوده الدائم في خليقته وبطرق متعددة, لذلك يجب علينا أن نبصر بعيون صافية نقية قادرة علي الوصول لجوهر الأشياء. وكما يقول السيد المسيح: طوبي لأنقياء القلب, فإنهم يعاينون الله.
لكن للأسف لم نعد نكتشف هذا في حياتنا اليومية وفي محيطنا, فقد تغيرت أشياء كثيرة في حياتنا واتجهنا وراء المظاهر الخارجية, ولم نعد نشعر بجمال الهدوء والانسجام مع كل شيء. وهكذا بالنسبة للنور الإلهي فهو يقع في كل القلوب, ولكن القلوب الصافية وحدها هي التي تعكس في أمانة هذا النور الإلهي.
كم من مشاهد وصور تمر أمام أعيننا بواسطة أدوات وأجهزة مختلفة نمتلكها ونتحكم فيها! لكننا للأسف فقدنا القدرة علي الرؤية الفاحصة والمتأملة والمدهشة, وبذلك فقدنا الإحساس بالجمال الحقيقي للأشياء التي ينبعث منها نور الله. ويقول الفيلسوف كانط: شيئان يهديانني إلي الله: السماء المرصعة بالنجوم والشريعة الأخلاقية في داخلي.
نحن في أشد الحاجة إلي تأمل السماء الصافية الساكنة والحقول والوديان والأنهار وكل ما يدور من حولنا حتي ننقي قلوبنا وعقولنا وأذهاننا. ويحثنا القديس أغسطينوس بأننا لا نستطيع أن نعي معني الجمال إلا بالعودة إلي الله صانعه. وقد عاش أغسطينوس خبرة عظيمة عندما اكتشف الجمال الحقيقي قائلا: يا الله, لقد أحببتك متأخرا أيها الجمال القديم, الحديث, أجل, متأخرا أحببتك! أنت كنت في داخلي وأنا خارجا عن نفسي! وفي الخارج بحثت عنك طويلا ووثبت في قباحتي نحو الجمالات التي كونتها. أنت كنت معي وأنا لم أكن معك, واستوقفتني بعيدا تلك الأشياء التي لولا وجودها فيك لما كان لها وجود. دعوتني وصرخت بي, فانتصر صوتك علي صممي وسطع نورك فبدد عماي وفاح أريجك فتنشقته وها إنني إليك أتوق.
إذا, تكفينا لحظة فيها ننحني علي زهرة, نحدق في عيني طفل, نرتمي في الأفق الفسيح للبحر لنشعر بالله وسر إعلانه عن ذاته. ما أجمل كلمات داود النبي في المزمور التاسع عشر: السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. فإن عظمة المخلوقات وجمالها يؤديان إلي التأمل في خالقها. ومهما ضاقت بنا الدنيا, نستطيع أن نري السماء من ثقب إبرة. وهناك دائما فوق السحاب القاتم نجوم لامعة.
لنتأمل معا شجرة الخريف, لا أوراق فيها ولا ثمار, المنظر يوحي بالموت, مع ذلك, الشجرة حية.. فيها سر الحياة.. وبعد بضعة أشهر, تنمو البراعم الصغيرة وتنضج الثمار, وتزدهر الحياة من جديد.
إن الشخص الواقعي والعملي يري الوردة ويعرف أنه سوف يتألم من أشواكها. لنكن إذا واقعيين حتي نستطيع أن نستمتع بالحياة وجمالها بالرغم من الضغوط والمشكلات التي نمر بها. ذات مرة, اتفق خمسة أشخاص مختلفو المهن أن يسافروا معا: راهب وقاطع طريق ورسام وبخيل وحكيم. عند غروب الشمس وجدوا مغارة يحتمون بها كملجأ لهم. وعندما شاهدوها, قال الراهب: هل هذا المكان ملائم للخلوة والصلاة؟, وقال قاطع الطريق: هذا مخبأ نموذجي لكل شخص منحرف!. ثم تمتم الرسام قائلا: هذه الصخور والظلال تصلح موضوعا عظيما لريشتي وألواني. ولكن البخيل صاح: هذا المكان مناسب لإخفاء مجوهراتي وكنوزي. أما الحكيم بعد إنصاته للجميع فقد قال بكل بساطة: ما أجمل هذه المغارة.
تظهر لنا هذه القصة الخيط الفاصل والدقيق بين ما هو مفيد وما هو جميل. أحيانا كثيرة نقوم بأشياء غير مفيدة ولكنها ضرورية, مثال علي ذلك: إذا قضينا وقتا بدون عمل أي شيء, ولكن لنظل في صمت وتأمل لنكتشف الجمال الموجود في الخليقة ونحبه, إذا, يجب علي كل واحد منا أن يقوم بهذه السياحة داخل الكون حتي يستطيع أن يكتشف أسرار الخليقة ويحبها أكثر ويحافظ عليها كي تظل داما في نضارة وشباب.
ونختم بهذه الكلمات الحكيمة: إن أشعة الشمس تقع علي المسطحات جميعها. ولكن اللامعة والمصقولة منها هي التي تعكس تلك الأشعة.